الخميس، 16 أكتوبر 2008

الفصاحة والبلاغة

الفصاحة والبلاغة.
لابد قبل الدخول في دراسة البلاغة من معرفة قواعد مهمة يبنى عليها الكلام ، وذلك من خلال دراسة مصطلحي: الفصاحة والبلاغة .
الفصاحة : تعني الوضوح والصفاء والظهور، يقال: فصح اللبن إذا زالت عنه رغوته، وعلى هذا فالفصاحة هي: ظهور الشيء ووضوحه وخلوه من الشوائب، وهذا الذي لابد أن يتحقق في اللفظ حتى يكون فصيحا .
أما البلاغة، فهي : الوصول والانتهاء .
والفرق بينهما أن الفصاحة تطلق علي كلٍ من الكلام والكلمة المفردة ، أما البلاغة فلا تطلق إلا على الكلام، ولا توصف بها الكلمة المفردة ، فيقال : كلمة فصيحة، وكلام فصيح، ويقال : كلام بليغ ولا يقال عن كلمة مفردة : هذه كلمة بليغة، وإنما يقال ذلك إذا أريد بالكلمة الكلام.
وهنا سؤال ، ما علاقة المعنى اللغوي في الفصاحة الذي هو ( البيان والظهور ) بمدلولها الاصطلاحي الذي يعني خلو الكلمة أو الكلام من عيوب الفصاحة ؟
ملخص كلام ابن الأثير صاحب المثل السائر في هذا، أن الفصيح هو الظاهر البين، وأن اللفظ إنما ظهر وبان لكثرة استعماله بين البلغاء ، وإنما كثر استعماله بينهم لحسنه وجماله وهم لا يختارون إلا الأجود ، وإدراك الحسن غالباً ما يكون بالسمع : فالسمع يستلذ صوت البلبل وينفر من صوت الغراب ، وفرق بين صهيل الفرس ونهيق الحمار ، وتأمل أيضا كلمات: المزنة والديمة كيف يستلذ السمع ، لكنه ينفر من كلمة( البعاق )، مع أن الكلمات الثلاث تدل علي معنى متقارب ، وبهذا نعلم أن أكثر العيوب مردها إلي مجافاة الكلمة للسمع والذوق ، تأمل ألا يفرق الذوق والسمع بين هذه الألفاظ وهي مترادفة :
الغصن : والعسلوج
الأسد : والفدوكس
السيف : والخنشليل
وبهذا يظهر أن الفصاحة تعتني باللفظ ولذاذته في السمع، وقبوله من قبل الذوق ، وهذا هو الأصل وإن كانت بعض العيوب تعود إلى المعنى كما هو حال عيوب الكلام، وهناك يأتي دور البلاغة، وبهذا يتبين من هذا التسلسل الذي أشار إليه ابن الأثير كيف كانت الكلمة الفصيحة هي الكلمة الظاهرة المستعملة المقبولة في الذوق .

العيوب المخلة بفصاحة الكلمة
هناك عيوب نص عليها البلغاء إذا وجدت في كلمة أخرجتها عن مجال الفصاحة فأصبحت منبوذة غير مقبولة ومن ذلك :
1ـ تنافر الحروف .
وذلك إذا اشتملت الكلمة على حروف غير متناسقة وعسيرة في النطق، وثقيلة على اللسان فهي حينئذ تكون غير فصيحة، وقد يكون سبب هذا أحيانا تقارب المخارج ( س - ش -ج ) ، ( ح -خ - ع - هـ ) ، مثل قول الأعرابي لما سُئل عن ناقته ، قال : تركتها ترعى (الهعخع )، فهذه كلمة يصعب نطقها، وحروفها متداخلة وغير متناسقة، ومثل قول امرئ القيس:
غدائره مستشزرات إلى العلا تظل العقاص في مثنى ومرسل
فهو هنا يصف شَعْرا، فاستعمل كلمة (مستشزرات) أي: مرتفعات وهي ثقيلة ، بسبب تقارب الحروف وعدم إلف بعضها بعض، فأصبحت الكلمة ثقيلة عند النطق بها، ومن هذا القبيل كلمة : ( سجسج ) وهي الأرض المتوسطة بين اللين والصلابة .
والمرجع في قبول ذلك أو رده هو الذوق، وكثرة الاستعمال، فكلمة (شجر) متقاربة المخارج، ومع هذا هي فصيحة ولطيفة ومثلها :(شجي).
2ـ مخالفة القياس اللغوي.
وذلك أن تكون الكلمة خارجة عن ما عرف عن العرب من قواعد مطردة وهي قواعد الصرف وبنية الكلمة كقول الشاعر :
الحمد لله العلي الأجلل الواهب الفضل الكريم المجزل
فقوله: ( الأجلل ) فيه خروج عن قواعد العرب ، لأن الأصل في المتماثلين في مثل هذه الصورة الإدغام، فيقال الأجل ومثله قولهم: موددة ، والأصح مودة .
3ـ الغرابة .
وذلك أن تكون الكلمة وحشية غريبة غير مألوفة ولا معروفة لا يفهم معناها إلا بالبحث في بطون الكتب ، ومن هذا القبيل ما يذكر أن عيسى بن عمر عندما سقط عن حماره وتجمع الناس عليه غضب وقال لهم : مالكم تكأكأتم علي تكأكؤكم علي ذي جنة افرنقعوا عني ، ومثل هذه الكلمات : العلطبيس، والدردبيس، والفدوكس، والعسلوج .
4ـ الكراهة في السمع.
وذلك بأن تكون الكلمة ممجوجة في الأسماع تتبرأ منها الأذن لقبحها، وذلك ككلمة (الجِرِشَّى ) أي :النفس في قول المتنبي مادحا:
مبارك الاسم أغر اللقب كريم الجرشى شريف النسب
وكذلك كلمة (جفخت) في قول أبي الطيب المتنبي
جَفَخَتْ وَهُمْ لاَ يَجْفَخُونَ بِهَا بِهِمْ شِيَمٌ عَلَى الْحَسَبِ الأَغَرِّ دَلاَئِلُ
العيوب المخلة بفصاحة الكلام .
هناك عيوب تتعلق بالكلام المركب لا باللفظة الواحدة ومن ذلك :
1ـ تنافر الكلمات .
وذلك بأن يكون الكلام جامعا لكلمات لا توافق بينها، فيحصل عند النطق بها متتابعة ثقل في اللسان ، ومن هذا قول الشاعر :
وقبر حرب بمكان قفر وليس قرب قبر حرب قبر
وقوله الآخر :
فقلقلت بالهم الذي قلقل الحشا قلاقل عيس كلهن قلاقل
2ـ ضعف التأليف.
وذلك بأن يكون الكلام مخالفا للمشهور من قواعد النحو ، ومن ذلك أن يعود الضمير على متأخر لفظا ورتبة، وهذا ممنوع عند الجمهور النحويين كقولك : أكرم ضيفُه محمدا ، حيث عاد الضمير على ما بعده، وهو متأخر لفظا لأن كلمة (محمدا) جاءت بعد الضمير في ( ضيفه )، ومتأخر رتبة لأن المفعول متأخر في رتبته عن الفاعل ، ومن هذا قول الشاعر :
لو أن مجدا أخلد الدهر واحدا من الناس أبقى مجده الدهر مطعما
فالضمير في (مجده ) يعود على ( مطعما ) وهو متأخر لفظا ورتبة لأنه مفعول به .
ومن هذا القبيل كذلك جعل الضمير متصلا بعد ( إلا ) نحو ( إلاك ) والصحيح (إلا إياك) ومن هذا قول الشاعر :
ليس إلاك يا علي همام سيفه دون عرضه مسلول
3ـ التعقيد اللفظي.
وهو أن يختل معنى الكلام باختلال مواقع الكلمات، فلا يعرف المعنى المراد وهذا مثل ما جاء في قول الفرزدق يمدح إبراهيم المخزومي خال هشام بن عبدالملك بن مروان حين قال :
وما مثله في الناس إلا مملكا أبو أمه حي أبوه يقاربه
وأقرب من هذا لو قال : وما مثله في الناس حي يقاربه إلا مملكا أبو أمه أبوه
وبيان ذلك كالآتي : وما مثله : أي الممدوح وهو (إبراهيم )، مملكا : يعني (هشام ) الخليفة، أبو أمه : أي أبو أم هشام، أبوه : أبو الممدوح (إبراهيم ) .
أي أبو أم هشام ( أي جد هشام ) هو أبو الممدوح أي أبو إبراهيم وهو أبو أم هشام، فإبراهيم أخ لأم هشام وأخو الأم خال فهو خال هشام بن عبدالملك.

فنون البلاغة
استقرت فنون البلاغة علي يد السكاكي في كتابه المفتاح على ثلاثة هي :
1ـ المعاني 2ـ البيان 3ـ البديع
أولا : المعاني (التخطيط): وهو فن يعرف به كيفية صياغة الكلام على وفق مقتضى الحال ، أو ترتيب الكلمات في النطق وفق ترتيبها في النفس.
ثانيا : البيان وهو فن التصوير أي معرفة كيفية الإيضاح عن المراد بطرق مختلفة : مثل التشبيه والمجاز بنوعيه والكناية .
ثالثا : البديع (التزيين) وهو الفن الذي يعرف به أوجه تحسين الكلام من جهة اللفظ أو المعنى فهو إذا فن التزيين والتجميل ، ويمكننا تقريب مدلول هذه العلوم بهذا المثال:
فنون البلاغة تشبه المبنى ، ولا عجب فهي مبنى الكلام ، ومعلوم أن المبنى يبدأ بالمخطط الذي يوضح فيه مواقع الغرف ومسمياتها وفي الغالب يخضع لكثير من التغيير قبل الشروع في البناء ، وذلك بالتقدم أو التأخير أو الحذف أو الإضافة وهكذا حتى يستقر الرأي على ما ترتاح له نفس صاحب المبنى ، وهذا تماما ما يمثل علم المعاني ، فالمتكلم يتصرف في كلامه ويختار ما يتناسب مع غرضه ، فقد يحذف وقد يضيف وقد يكرر ، وقد ينوّع في الكلمات ويستغني عن بعضها وهكذا، حتى تتواءم الكلمات والتراكيب مع ما في نفسه ومع ما يقتضيه المقام .
وبعد استقرار المبنى ، واستقرار مخطط الكلام يأتي دور نوعية البناء فلصاحب المبنى الخيار بأن يبني بطرق مختلفة : بالطين، باللبن ، بالإسمنت ، بالحديد ، بغير ذلك .
وكذلك المتكلم يمكن يعبر عما في نفسه بطرق مختلفة، وهذا هو ما يعلمنا إياه علم البيان، فلك أن تعبر عن معنى الكرم مثلا بالطرق الآتية : التشبيه ، المجاز ، الكناية .
وبعد ذلك يأتي وقت التزيين، وهذا ما يعنى به (البديع)، من جمال صوتي وتناسق وزني من خلال : السجع، والجناس، أو لطائف معنوية من خلال: الطباق والتورية، وهكذا، تماما كما يصنع صاحب البناء بعدما ينتهي جسم البناء يعمد إلى تزيينه وطلائه بالألوان الزاهية، بما يتناسب مع تناسقه وموقعه .
وما تزال هذه المصطلحات –في نظري – تحتاج إلى بيان وبحث لربطها بما تحتها من مباحث، وقد قيل بأن الأول فن يعرف به خواص تراكيب الكلام من جهة إفادتها المعنى، وبالثاني خواصها من حيث اختلافها، وبالثالث وجوه تحسين كلام .
وهكذا نلحظ كيف يعتني هذا الفن بالمعني والمبنى، أي: الشكل والمضمون، لهذا لا يمكن أن تتحقق البلاغة في لفظ منفرد، وبتراكيب لارابط بينها، ولا بمعان لاتخدمها تراكيب معبرة، والقول البليغ مأمور به ليكون الكلام مؤثرا، قال تعالى:(وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا) سورة النساء 63يقول شيخ الاسلام في منهاج السنة النبوية 8 / 54 "وإنما البلاغة المأمور بها في مثل قوله تعالى :(وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا) سورة النساء 63، هي علم المعاني والبيان فيذكر من المعاني ما هو أكمل مناسبة للمطلوب ويذكر من الألفاظ ما هو أكمل في بيان تلك المعاني، فالبلاغة بلوغ غاية المطلوب أو غاية الممكن من المعاني بأتم ما يكون من البيان فيجمع صاحبها بين تكميل المعاني المقصودة وبين تبيينها بأحسن وجه ومن الناس من تكون همته إلى المعاني ولا يوفيها حقها من الألفاظ المبينة ومن الناس من يكون مبينا لما في نفسه من المعاني لكن لا تكون تلك المعاني محصلة للمقصود المطلوب في ذلك المقام"
فعلمنا بهذا أن المعنى الشريف يحتاج حلة شريفة نفيسة يظهر فيها، والنظم الجميل قد يحيل المعنى الساذج العادي إلى معنى لطيف وشريف، مثال ذلك ما ذكره الرافعي عن أكل الناس الحلوى في العيد، فهذه فكرة عادية معروفة، ولو تساءلنا عنها فقلنا: لماذا يتناول الناس الحلوى في العيد؟ لكان سؤالا ساذجا في نظر الكثيرين، لكن إجابته عن ذلك أحالت ذلك المعنى الساذج إلى معنى لطيف شريف، فقد قال : وإنما يتناول الناس الحلوى في العيد لتحلو الكلمات في أفواههم.

الاثنين، 13 أكتوبر 2008

مقدمة (البلاغة معاني)

مقدمة
الحمد لله الذي خلق الإنسان وعلمه وشرفه بالبيان، والصلاة والسلام على رسول الله، محمد بن عبد الله القائل: إن من البيان لسحرا، أوتي جوامع الكلم، وأمسك بزمام الفصاحة، وملك ناصية البيان، أما بعد.
فإن فن البلاغة يعد من العلوم التي نشأت في أحضان الدراسات القرآنية؛ لذلك نجد كثيراً ممن كتبوا في بداياته هم ممن اعتنى بإظهار إعجاز القرآن الكريم .
ولقد مر هذا الفن بمراحل من التهذيب والتثقيف تنقل خلالها بين اتجاهات عدة فتلوّن بها واصطبغ بصبغتها ، وماكاد أن يستقر ويقف على سوقه حتى تعثر في مهاوي المنطق ومنزلقات الفلسفة فتنحى الذوق واعتنى المنظرون بالتعقيد والتقسيم، اعتناءً سمجت معه البلاغة وقل رونقها، وتناقل القوم ذلك جيلاً بعد جيل فمن شارح ومن مختصر ومن مطول ومن محشٍّ، وضاعت روح البلاغة بين أولئك القوم ونحن وإن كنا نحسن الظن بهم في كل ما فعلوه إلا أننا دائماً يجب أن نعلم أنه ليس كل من أحسن الظن أصاب في عمله، ولئن كان ما فعلوه يناسب تلك المرحلة فإن ذلك ينبغي أن يتغير بما يتناسب مع عصرنا وما فيه من العلوم والنظريات الحديثة.
ومع ما ذكرنا إلا البلاغة بقيت في بعض الدراسات الجانبية (غير المتخصصة فيها ) غضة غنية ونقصد بذلك كتب التفسير والإعجاز، ولا ننسى أن نشير إلى ما بذله الإمام عبدالقاهر الجرجاني في سبيل إحياء البلاغة خاصة في كتابيه ( أسرار البلاغة ودلائل الإعجاز )، وهو وإن لم يتحرر من أسر المنطق تحرراً كاملاً إلا أنه جعل للذوق مجالاً كبيراً مما حدا بالدارسين أن يرفعوا من شأنه ويعدونه مؤسس البلاغة العربية ومرسي أركانها.
وإن الدراسات الأسلوبية الحديثه لمدينة كثيراً لجهود مثل أولئك العلماء ، فقد وجدت نظريات أسلوبية كانت جذورها موجودة عند أولئك .
ولكن الشيء الغريب أن نقف نحن أهل البلاغة واللغة مكتوفي الأيدي بينما يأتي غيرنا ينهل مما عدنا ويبني عليه صروحاً جديدة .
ولهذا سنسعى من خلال هذا العرض لموضوعات البلاغة لتحقيق ما يأتي:
1- تحبيب هذا الفن الرفيع لدارسي البلاغة العربية، بعدما أسهمت التقسيمات
2- العقلية، والجدل المنطقي، وطريقة التدريس في تكريس الكره لهذا الفن الجميل.
3- محاولة تعريف الدارس كيف يكشف عن مواطن الجمال في النصوص الرفيعة.
4- الوقوف على أهم مباحث فنون البلاغة، لتمهيد الطريق أمام الدارس الراغب في الزيادة والتخصص.
5- الإسهام في الارتقاء بالأسلوب، ، من خلال تعلم الدارس أهم معالم جماليات الكلام.
6- التعرف على كم مناسب من الأساليب الرفيعة المؤثرة، لتربية التذوق الجمالي عند الدارس، ليستثمر ذلك، في إبداع كلام يشد الأذهان ، ويؤثر في النفوس.
ولأن هذه هي أهدافنا فإننا سنحاول تجاوز الحدود المنطقية ، والأمثلة النمطية ، والتقسيمات العقلية ، والمصطلحات العلمية، إلا بقدر الضرورة لنصل إلى الأسرار ، وذلك من خلال الإكثار من تحليل الشواهد والوقوف عند الدقائق .


تاريخ موجز لمسيرة البلاغة
مر هذا الفن الجميل بمراحل عدة، حتى وصل إلى ما ستقر عليه في تقسيماته الثلاث: (المعاني، البيان، البديع)، وتلته بعد ذلك مراحل أخرى اتسمت بسمات عصرها، ومضت المسيرة حتى يومنا هذا، و مايزال هذا الفن الجميل قابلا للتطوير والتحديث.
وسأذكر بإيجاز أهم مراحل التأليف في البلاغة منذ نشأتها وحتى العصر الحديث، وتتضح تلك المراحل من خلال مايأتي:
أولا: كتب تعرضت للبلاغة بإيجاز، ولم تكن البلاغة مقصدها الأول، وهي على قسمين:
1ـ كتب تخصصت في إعجاز القرآن، مثل : مجاز القرآن لأبي عبيدة .
2ـ كتب تخصصت في الأدب، مثل : البيان والتبيين للجاحظ ، و( البديع ) للأمير ابن المعتز ، (وقواعد الشعر ) لثعلب ، و( نقد الشعر ) لقدامة بن جعفر .
ثانيا: كتب توسعت في البلاغة، واهتمت بها اهتماما واضحا، وقُصدت فيها البلاغة قصدا، وهي علي ثلاثة أقسام :
1- قسم نحا الناحية الإعجازية، فاهتم بالبلاغة من خلال البحث في بلاغة القرآن وإعجازه، مثل : إعجاز القرآن للباقلاني ، وثلاث رسائل في الإعجاز للرماني.
3- قسم اعتنى بتقعيد جماليات القول، مع عناية فائقة بالذوق، ومن أعظم ما وضع في ذلك كتابا : ( أسرار البلاغة ) و(دلائل الإعجاز )، لعبدالقاهر الجرجاني، ولم يكتب في البلاغة مثلهما حتى يومنا هذا .
2- قسم غلب عليه الترتيب والتنظيم والمنطق، وأشهرها كتاب ( مفتاح العلوم ) للسكاكي، وقد أفرد البلاغة بمبحث خاص، حصر فيه أقوال السابقين باختصار وقننها تقنينا منطقيا، معتنيا بالتعريفات والحدود والشواهد ، وهو أول من جعلها في هذه العلوم الثلاثة : المعاني ، البيان ، البديع .
والكتاب رغم مميزاته، إلا أنه جار على الذوق ، حيث قل فيه التحليل والبيان، وكثر فيه التعقيد والتنظيم، وقد كان مناسبا لمرحلته التي ألف فيها، ثم جاء من بعده الخطيب القزويني فاختصر ( المفتاح ) في كتاب سماه التلخيص ( تلخيص المفتاح )، ثم شرحه في كتاب سماه (الإيضاح في علوم البلاغة)، وهو أشهر ما يُدرس في البلاغة اليوم في الجامعات وغيرها .
ثالثا: كتب اعتنت بالشرح والتفصيل والرد، وأكثرها دار حول (التلخيص) ، ويكفي أن نذكر منها هنا : كتاب ( شروح التلخيص ) لمجموعة من العلماء ، وقد اعتنت هذه الشروح بالجانب المنطقي فمات الذوق أو كاد ، وقلّت الشواهد حتى جمدت البلاغة، وتحولت إلى علم مجرد لامدخل فيه للذوق ، وبقيت علي هذا سنوات عديدة .
رابعا: كتب اعتنت ببعث البلاغة وتجديدها، وحصل هذا في العصر الحديث، حيث أراد أصحابها أن يعودوا بالبلاغة إلى ما كانت عليه في عصر عبدالقاهر الجرجاني ، فحاولوا التخلص من سيطرة المنطق والتقسيم ، واعتنوا بالشواهد وحاولوا التجديد ، ومن تلك الكتب : البلاغة الواضحة ، والبلاغة في ثوبها الجديد ، والبلاغة التطبيقية ، والبلاغة فنونها وأفنانها، لفضل حسن عباس ، وهذا الأخير-في نظري- من أفضلها وأوسعها.
واعلم –أيها المبارك- أنه لن يحصل هذا الذي دعوا إليه من بعث البلاغة، وتربية الذوق الرفيع بجماليات القول، إلا بالوقوف علي نماذج كثيرة من الكلام البليغ سواء من القرآن الكريم ، أم من السنة أم من رفيع القول(شعرا أو نثرا)، وتحليل ذلك، والتأمل فيه.
وعلى المستوى الفردي يحتاج من يروم الإبداع في هذا الفن ومعرفة أسراره، أو القدرة على نظم بديع الكلام وبليغة، يحتاج من طلب هذا كله إلى أمرين :
أحدهما: خلْقي موهوب، وهذا لا بد له من ملكات أربع : ذهن حاد ثاقب ، وعاطفة جياشة قوية ، وخيال خصب ثري ، وأذن حساسة لجمال جرس الكلمات وإيقاعها .
ثانيهما: خلقي مكتسب، وهذا لابد له من مهارات أربع : معرفة جيدة بعلوم اللغة ، قراءة واسعة في بليغ الكلام شعره ونثره، إدراك لأحوال النفوس وطبائعها، مران على تحليل النصوص الجميلة .
ومن هذا المنطلق فنحن ندعو للاطلاع على كتب التفسير، ففيها مجال واسع للتطبيق مع خلوه من سلطة الحدود والتقسيمات، مثل: تفسير الكشاف للزمخشري ، والبحر المحيط لأبي حيان، وبدائع التفسير لابن القيم، وتفسير أبي السعود، ونظم الدرر في تناسب الآيات والسور للبقاعي، وروح المعاني للألوسي ، والتحرير والتنوير للطاهر بن عاشور .
وإنما قلت هذا لأنه من خلال معايشة هذه المادة وتدريسها والبحث فيها، اتضح لي أن أفضل ما يوقف الإنسان علي جماليات القول، التأمل في أسرار القرآن من خلال القراءة في كتب التفسير ، ومحاولة جمع النظائر، وتسجيل النكات البلاغية، وبذلك يتحصل للمتعلم كم جيد من الأساليب الرفيعة التي سبر أغوارها، ووقف علي بعض روائعها أولئك المفسرون والمعتنون بإعجاز القرآن.
كما ندعو للاطلاع الدائم على ماكتبه عبدالقاهر الجرجاني رحمه الله، وخصوصا فيما يتعلق بما عرف عنده بنظرية (النظم )، وذلك في كتابيه العظيمين: دلائل الإعجاز، وأسرار البلاغة .

البديع (المحسنات المعنوية) وتطبيقات

ثانياً: المحسنات البديعية المعنوية
1- الطباق:
وهو الجمع بين الشيء وضده في كلام واحد، ومن أمثلته في القرآن الكريم: الليل والنهار، الأول والآخر ، وقد ورد لفظ «الليل» في القرآن حوالي مائة مرة، وذُكر في جل المواطن مقابلاً «للنهار»، أو أحد أجزائه مثل: «الضحى» و «الإصباح» و «الفجر» إلا نادراً.
وحسن الطباق مرده إلى قدرة التضاد في تمييز المعنى، لذا قيل والضد يظهر حسنه الضده .
2- التورية:
وهي أن يكون للّفظ معنيان: قريب وبعيد، فيذكره المتكلّم ويريد به المعنى البعيد، الذي هو خلاف الظاهر، ويأتي بقرينة ، توهم السامع أن المتكلم أراد المعنى القريب، كقول الشاعر:
أبيات شعرك كالقصور ولا قصور بها يعوق ومن العجائب لفظها حرّ ومعناها رقيق
فللرقيق معنيان: قريب وهو المملوك، وبعيد: وهو من الرقة، والشاعر أراد الثاني، لكن الظاهر من مقابلته للحرّ إرادة المملوك
وقد استعملها أبو بكر الصديق أثناء خروجه مع الرسول عليه الصلاة والسلام في الهجرة, وتعقبهم أهل مكة للقبض عليهما , وسأله أحدهم: من هذا الذي معك؟, وكان يعرف أبابكر ولا يعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رضي الله عنه:هاد يهديني السبيل, ففهم الرجل أنه يقصد دليلا يدله الطريق, وأبوبكر قصد أنه هاد يهديه الإسلام.
والتورية تجوز بشرطين، الأول : أن يكون اللفظ محتملاً لها، والثاني : ألا تكون ظلماً ، فلو قال رجل : أنا لا أنام إلا على وتد، والوتد عود يوضع في الجدار ويعلق عليه المتاع ، وقال الرجل : أنا أريد بالوتد الجبل ، فهذه تورية صحيحة ، لأن اللفظ يحتملها وليس فيها ظلمٌ لأحد .
وكذلك لو أن رجلاً قال : والله لا أنام إلا تحت السقف ، ثم نام فوق السقف وقال : أردت بالسقف السماء. فهذا صحيح ، فقد سميت السماء سقفاً في قوله سبحانه : ( وجعلنا السماء سقفاً محفوظاً( الأنبياء ،32) .
أما لو استخدمت التورية للظلم فلا تجوز ، كمن أخذ حقاً من إنسان ثم ذهب إلى القاضي ، ولم تكن للمظلوم بيّنة فطلب القاضي من آخذ الحق أن يحلف أن ليس له عندك شيء ، فحلف وقال : والله ما له عندي شيء ، فحكم له القاضي، وقال: أنا ما أردت النفي ، وإنما أردت الإثبات، ونيتي في كلمة "ما له" أن (ما) اسم موصول أي : والله الذي له عندي شيء ، فهذا وإن كان اللفظ يحتمله إلا أنه ظلم فلا يجوز .
وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سأله، بعض العرب في غزوة ما، ولم يتعرفوا من هو، وأرادوا أن يعرفوا شـخصيـته، قالوا: (ممن القوم؟ فقال عليه الصلاة والسلام: من ماء)، ويقصد بذلك الماء الذي خلق منه الإنسان، وظن القوم أنهم من موقع يسمى ماء.
ومن هذا قوله صلى الله عليه وسلم للمرأة: (زوجك الذي في عينه بياض) فقد فهمت المرأة أن البياض هو العمى، لذا قالت لا، وفي الحقيقة أن كل واحد منا في عينه بياض وسواد.
3- الأسلوب الحكيم:
وهو تلقي المخاطب بغير ما يترقب، بحمل كلامه على غير مراده ، وتلقي السائل بغير ما يتطلب بتنزيل سؤاله منزلة غيره .
فمن الأول وهو تلقي المخاطب غير ما يترقب، ماذكر من توعــّـــد الحجاج يوما للقبعثري وهو من الخوارج فقال له : ( لأحملنــَّـك على الأدهم ) ،ويقصد الحجاج بالأدهم هنا القيد ,فهو يهدده بالقيد والحبس، فقال الخارجي: مثلك يحملُ على الأدهم والأشهب،ويقصد الخارجي بالأدهم هنا الجواد الأسود ويقصد بالأشهب الجواد الذي اختلط سواده بلون آخر، يقصد بهما الهدية أو أن يحمله في سبيل الله ، فقال الحجاج : ويلك إنه حديد ، فقال الرجل ( لأن يكون حديدا خير من أن يكون بليدا ) قاصدا بلفظة ( حديدا ) هنا معنى ( ماهرا وصلبا ، فأعجب الحجاج ببيانه وعفا عنه.
وكقول الشاعر:
قـلت: ثقلتُ إذ أتيتُ مـراراً قـال: ثقّلتَ كـاهلي بالأيادي
قلت: طوّلتُ، قال أَوليتَ طَوْلاً قلت: أبرمْتُ، قال: حبل وداديومن النوع الثاني، وهو تلقي السائل بغير ما يتطلب ، تنبيها على أن هذا هو الأولى بأن يسأل عنه، كقوله تعالى: (يسألونك عن الأهلّة قل هي مواقيت للناس والحجّ)
(27) فإنهم لّما لم يكونوا يدركون سبب اختلاف أشكال الهلال، اجيبوا بما ينبغي السؤال عنه، وهو فائدة اختلاف الأهلّة.

صور من البديع في القرآن
ما ورد في القرآن مما نعده محسنات بديعية فقد وردت الألفاظ التي كان بها الحسن البديعى في مكانها، يتطلبها المعنى ولا يغنى غيرها عنها.
انظر إلى قوله تعالى{ وهم ينهون عنه وينأون عنه، وان يهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون}.
ألا ترى أن موقف الكفار من القرآن أنهم يبعدون الناس عنه، كما يبعدون أنفسهم عنه، فعبّر القرآن عن ذلك بكلمتين متقاربتين في الأصوات (ينهون، ينأون) ليشعر قربهما بقرب معنيهما، فالنهي والنأي عملان يدلان على كرههم لهذا الحق، وقد افترقت الكلمتان في الهاء، والهمزة، ولما كان النهي يعني صرف غيرهم عن القرآن، جاءت معه (الها) التي تأتي للتنبيه، وتكثر في مواطن النهي مثل : صه ، مه، وأما في ابتعادهم هم عنه فجاءت الهمزة القريبة من النفس، وهي أدل الأصوات على الذات.
ومن هذا قوله تعالى{ فأما اليتيم فلا تقهر و أّما السائل فلا تنهر]في كلمة (تقهر ، وتنهر) تصوير صوتي جميل ، فتقهر فيها (قاف) ، وتنهر فيها (نون) والقاف صوت قوي فيه من صفات القوة ، الجهر ، والشدة ، والاستعلاء والقلقلة ، وهذا يصور لنا ما في كلمة القهر من العلو والغلبة والشدة والأذى ، بينما نجد (النون) يعد صوتاً لطيفاً ، ليس فيه من صفات القوة لا الجهر ، وبقية صفاته ضعيفة : الرخاوة ، الاستقبال والانفتاح ، أو الغنة ، لذا كان النهر ألطف من هذا الوجه من القهر وما يشترك فيه مع القهر من الأذى والألم النفسي هو من بقية الأصوات (البناء) المصورة للمباشرة في الخطاب وما فيه من الجرح إذا كان على سبيل المثال القدح والأذى ، والهاء المصورة لخروج الهواء واندفاعه نحو المخاطب والراء بما فيها من دلالة الطرق والتكرار ، كما يصور عمق الأذى عندما يتكرر هذا الفعل مع الصنفين المذكورين .
وقد يكون في مخرج (القاف) الذي هو من أقصى اللسان ، ما يصور عن الأذى لليتيم ، وأما مخرج النون فهو من خروج اللسان مما يدل على أن أذى السائل أهون من أذى اليتيم وان أداة خارجي باللسان والكلام في ما ذلك لذا قدم اليتيم في رعاية الحق اليتيم ، عندما يتعرض لموقف إذلال وغلبه ، فيقف ريقه في حلقه ، في مخرج القاف تماماً فسبحان من هذا كلامه .

قال تعالى: {وأنه هو أضحك و أبكى وأنه هو أمات وأحيا}، فتأمل هذا الطباق العجيب، بسبب تضاد كلمتي: (أضحك، وأبكى) و(أمات وأحيا)، هذا التضاد الذي صور القدرة الإلهية، في التصرف بالكون والإنسان، بعلم وحكمة، وقدرة وعظمة.

وقال سبحانه {وتحسبهم أيقاظا وهم رقود}، نجد هنا طباقا بين كلمتي(أيقاظ و رقود)، وقد صور هذا الطباق شدة اشتباه الرائي لهؤلاء الفتية، أمتيقظون هم أم نيام؟ وهذا يعني أنهم جمعوا بين صفات الأيقاظ وذلك بحركتهم وتقبلهم، وبين صفات الرقود بتغميض أعينهم واضطجاعهم، ولكن تقديم يقظتهم وأنها هي التي تتبادر إلى ذهن الرائي يدل على حقيقتهم هي النوم بدليل، وهم رقود، ولا يمكن أن تظهر كل هذه المعاني دون الجمع بين المتضادين (اليقظة، والرقود).





تدريبات
حاول استخراج صور البديع من الشواهد الآتية، مع بيان سر ما تذكر.
· قال تعالى{ ويل لكل همزة لمزة}.
· قال تعالى {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ}الرعد16
· قال تعالى{ذلكم بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تمرحون}.
· قال تعالى{ وجئتك من سبا بنبأ يقين} .
· قال تعالى{قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ}الزمر9
· قال صلى الله عليه وسلم: "المؤمنون هينون لينون".
· قال أبو العلاء:
والحسن يظهر في بيتين رونقه بيت من الشِّعر أو بيت من الشَّعر





الاختبار الشهري الثاني

يحدد في وقته مع معلم المادة.

البديع (المحسنات اللفظية)

ثالثا: فن البديع
البديع : هو الفن الثالث من فنون البلاغة ، وهو الذي يعرف به طرق تزيين الكلام بعد مطابقته لمقتضى الحال .
يقول صاحب كتاب (من بلاغة القرآن):
"ليس البديع في يد الفنان حلية تقتسر، ولا زينة يستغنى الكلام عنها، ولا زخرفة يأتي دورها، بعد أن يكون المعنى قد استوفى تمامه.ولا يجئ مكانه في المرتبة الثالثة، بعد استيفاء علمى المعاني والبيان حقهما، فإن الإنتاج الأدبي يبرز إلى الوجود في نظمه الخاص، وبه الصور البيانية ، والمحسنات البديعية دفعة واحدة، فكأنما هذا المحسن البديعى جاء في مكانه ليقوم بنصيبه من أداء المعنى أولا، أما ماجاء فيه من جمال لفظي فقد جاء من أن تلك الكلمة بالذات يتطلبها المعنى ويقتضى المجيء بها.وليس كل ماذكره علماء البديع بألوان جمال تستحق أن تذكر بين المحسنات وذلك يتطلب معاودة النظر في دراسة هذه الألوان لاستيفاء الجميل وحذف مالا غناء فيه.
وتنقسم المحسنات البديعية إلى قسمين :
1ـ محسنات بديعية لفظية .
2ـ محسنات بديعية معنوية .
أولا: المحسنات البديعية اللفظية : وهي ما يكون مرد الحسن فيها إلى اللفظ، ولهذا فمدار هذا النوع على الأصوات وتناسقها مما يزيد الكلام لطافة وحسنا وقبولا، ومن أهم صور هذا النوع ما يأتي :
1ـ الجناس :
وهو تشابه اللفظين في النطق واختلافهما في المعنى ولا يشترط في الجناس تشابه جميع الحروف بل يكفي من التشابه ماتعرف به المجانسة .
والجناس نوعان : الأول الجناس التام ويكون باتفاق اللفظين في الحروف في أربعة أشياء : النوع الحروف والعدد والترتيب والتشكيل .
قال تعالى : (ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة )
وقال تعالى "( يكاد سنا برقة يذهب بالأبصار يقلب الله الليل والنهار أن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار )
وقال الشاعر :
فدارهم ما دمت في دارهم وأرضهم ما دمت في أرضهم
(دارهم ) الأولى فعل أمر ، و(دارهم ) الثانية قصد بها الدار .
و(أرضهم ) الأولى فعل أمر والثانية قصد بها المحل والأرض .
ومثل قول الشاعر: قصور شعرك ما بهن قصور
فقصورالأولى أبيات الشعر، والثانية المقصود بها النقص.
الثاني: الجناس غير التام أو الناقص، ويكون هذا الجناس باختلاف اللفظين في واحد من الأمور الأربعة السابقة.
أ‌- اختلاف النوع: قال صلى الله عليه وسلم: (الخيل معقود في نواصيها الخير ) فهنا تغير النوع في (الخيل) و (الخير)، ومثله قوله تعالى : ( ويل لكل همزة لمزة )، وقال تعالى: ( فأما اليتيم فلا تقهر وأما السائل فلا تنهر )، وقال تعالى: (وهم ينهون عنه وينأون عنه )، وقال تعالى: ( ذلكم بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تمرحون )، وقال تعالى: ( وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به )
ب‌- اختلاف عدد الحروف مثل قوله تعالى: ( والتفت الساق بالساق إلى ربك يومئذ المساق)، كقول أبي تمام
يمدون من أيد عواص عواصم تصول بأسياف قواض قواضب
ت‌- اختلاف الحركة والتشكيل مثل قوله تعالى:( ولقد أرسلنا فيهم منذِرين فانظر كيف كان عاقبة المنذَرين)، وقوله r( اللهم حسن خلقي كما حسنت خلقي )، وقولهم:جبة البُرد جُنة البَرد
ث‌- اختلاف الترتيب: مثل قول الشاعر:
حسامك فيه للأحباب فتح ورمحك فيه للأعداء حتف
2ـ السجع:
وهو توافق الفاصلتين من النثر على حرف واحد ، كقولهم : من طابت سريرته حسنت سيرته، وفي القرآن يعبر بالفواصل بدلا من السجع تأدبا مع القرآن، كقوله تعالى: ( ما لكم لا ترجون لله وقاراً، وقد خلقكم أطواراً )، وقوله تعالى: ( إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم ).

الكناية وأنواعها

ثالثا: الكناية
هي إطلاق لفظ وإرادة لازم معناه مع قرينه لا تمنع من إرادة المعنى الأصلي، وعلى هذا فيكون الفرق بين المجاز والكناية أن القرينة في المجاز تمنع من إرادة المعنى الأصلي وفي الكناية لا تمنع .
فإذا قلنا مثلا في الكناية : فلانة نؤومة الضحى فنعني بهذا أنهى مترفة غنية تجد من يخدمها وذلك أن المعروف عن العرب أنهم لاينامون الضحى لأنهم يشتغلون في الصباح إلا من عنده خادم ويجوز إرادة المعنى الأصلي وهو الحكم عليها بكثرة النوم أما المجاز فقرينته مانعة بمعنى أن المعنى الأصلي لا يمكن تقديره .
أركان الكناية :
1- اللفظ المكنى به.
2- المعنى المكنى عنه وهو المقصود غالباً.
3- القرينة التي ترشد إلى المعنى المراد.
فإذا قلنا مثلا: فلان كثير الرماد فهو كناية عن الكرم فاللفظ المكنى به ( كثير الرماد) والمعنى المكنى عنه (الكرم ) والقرينة ( حالية ).
أقسام الكناية :
1- كناية عن صفة .
2- كناية عن موصوف.
3- كناية عن نسبة.
1- الكناية عن صفة: هي أن تذكر الموصوف وتنسب له صفة ولا تقصد هذه الصفة وإنما تقصد لازمها، كقولنا: فلان طويل النجاد، فالصفة وهي ( طول النجاد) نسبت لفلان وهي غير مقصودة وإنما المقصود لا زم معناها لأنه يلزم من طول النجاة الذي هو حمالة السيف أن تكون قامة حاملة طويلة فهذا كناية عن طول القامة .
قال الشاعر:
وما يك فيّ من عيب فإني جبان الكلب مهزوم الفصيل
فهنا كنايتان كلاهما عن الكرم، الأولى : جبان الكلب والمقصود أن الكلب إذا تعود كثرة الضيفان فإنه يترك النباح وبهذا نستدل على أن المراد ليس الصفة المذكورة بل المقصود الكرم، والثانية : مهزول الفصيل والمقصود أنه من كثرة الضيفان وما يشربون من اللبن أو ما يتسببون به من ذبح لأم الفصيل لإطعامهم يحصل بذلك هزال وضعف للفصيل.
قال المتنبي : فمساهم وبسطهم حرير وصبحهم وبسطهم تراب
فالشطر الأول : كناية عن العز وهي كناية عن صفة، والشطر الثاني كناية عن الذل والفقر وهي كناية عن صفة أيضاً وإليك عدداً من الكنايات:
1- فلان منخرق الجيب: كناية عن الإسراف والتبذير .
2- فلان كثير الإخوان لين الجانب: كناية عن حسن الخلق.
3- فلان قوي الساعد مفتول العضلات: كناية عن القوة.
4- فلان قلع أسنانه : كناية عن التجربة.
5- فلان يمشي على ثلاث : كناية عن التقدم في السن.
6- فلان أطلق رجليه للريح: كناية عن السرعة والخوف.
7- فلان يشار إليه بالبنان: كناية عن الشهرة.
8- فلان عريض القفا: كناية عن الغباء والخمول.
9- فلان يمشي على بيض: كناية عن البطء.

2ـ الكناية عن الموصوف:
ضابط هذا النوع من الكناية أن نذكر الصفة والنسبة ولا نذكر الموصوف.
كقول شوقي:
ولي بين الضلوع دم ولحم هما الواهي الذي ثكل الشباب
فقوله (بين الضلوع دم ولحم) كناية عن موصوف وهو ( القلب) ولعلك تلحظ أن الموصوف لم يذكر وإنما ذكرت الصفة الدالة عليه وهي الدم واللحم والنسبة وهي كونه بين الضلوع.
وقال المتنبي:
ومن في كفه منهم قناة كمن في كفه منهم خضاب
كناية عن الرجال في الشطر الأول، وهو موصوف وأما الشطر الثاني فهو كناية عن النساء وهو موصوف كذلك.

3-الكناية عن نسبة:
وضابطها أن نذكر الصفة والموصوف لكننا هنا لن ننسب الصفة إلى صاحبها بل إلى شيء له تعلق بصاحبها فنقول مثلاً : فلان الكرم بين برديه: كناية عن الكرم، وذلك بنسبة الكرم إلى ثيابه وهذا يعني بالضرورة ثبوتها للممدوح.
قال الشاعر :
إن السماحة والمروءة والندى في قبة ضربت على ابن الحشرج
فالسماحة وما بعدها نسبت للقبة ، والمراد صاحبها فهي هنا كناية عن إثبات هذه الصفات للممدوح .
أهداف الكناية
لعلنا نلحظ من خلال ما سبق أن الكناية لها مقاصدها وأهدافها ويمكن تلمس بعض ذلك فيما يأتي :
1ـ إثبات الشيء بدليله ، فأنت عندما تقول فلان كثير الرماد تعني أنه كريم وتدلل على ذلك بكثرة الرماد .
2ـ الإيجاز .
3ـ التهذيب .
من بلاغة الكناية في القرآن والسنة:
قال تعالى : ( أومن ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين ) كناية بديعة رفيعة عن النساء وذلك أن الذي يتربى في الزينة والنعمة ولم يجرب الوقوف أمام الخصوم فإنه لن يبين في موطن الشدائد ولن يأتي بحجة ولا برهان وفي هذا إشارة إلى الرد على الكفار الذين جعلوا الملائكة بنات الله إذ كان المفترض فيهم أن يختاروا الجنس الممدوح عندهم وإن كان كل ذلك ضلال في ضلال ، وفي هذا إلماح إلى أن الرجل يجب أن يتجنب الزينة الزائدة التي تورث النعومة لأنها من صفات النساء وهي كناية عن موصوف .
وقال تعالى ( أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه ) فهذه كناية عن الغيبة والنميمة وهي كناية عن صفة ولاشك ، وهذه الكناية نقلت لنا صورة بشعة للغيبة قد لايتصور الإنسان قدر بشاعتها، إذ كيف يمكن للإنسان أن يأنس بتمزيق لحم آدمي مثله، ليس هذا فقط بل أخوه بل ويأكله ميتا أيضاً كل هذا لم يكن لو قيل لا تغتابوا .
وقال تعالى عن عيسى وأمه عليهما السلام : (كانا يأكلان الطعام ...) هذه كناية عن بشريتهم وهي كناية عن صفة، وفي هذا رد لطيف على القائلين بألوهية عيسى عليه السلام وأمه ، وذلك أن الذي يأكل الطعام يحتاج إلى قضاء الحاجة ومن هذه صفته لا يصلح أن يكون رباً .
الكناية في السنة الشريفة
قال صلى الله عليه وسلم : ( من يضمن لي مابين لحييه وما بين فخذيه أضمن له الجنة) ، فقوله r ( ما بين لحييه ) يقصد به اللسان و( ما بين فخذيه ) يقصد به الفرج وهي كناية عن موصوف .
وقال صلى الله عليه وسلم : ( المؤذنون أطول أعناقاً يوم القيامة ) وهذه كناية عن العلو والرفعة وهي كناية عن صفة، ويمكن أن تكون حقيقة في طول أعناقهم .




المجاز اللغوي (المجاز المرسل) وتطبيقات

المجاز المرسل
وهو نقل الكلمة من معناها الأصلي إلى معنى جديد لعلاقة غير المشابهة ، ومعنى قولنا مرسل أي أنه غير مقيد بعلاقة معينة بل هو مطلق العلاقات متعددها بينما الاستعارة لها علاقة واحدة وهي المشابهة .
ولابد في المجاز المرسل كغيره من أنواع المجاز من قرينة تمنع من إرادة المعنى الأصلي وهذه القرينة قد تكون مقالية ( أي موجودة في الكلام ) أو حالية (أي دلالة الحال الذي فيه الكلام ) وقد تكون عقلية فلو قلنا مثلاً : (رعينا الغيث ) لوجدنا أن كلمة الغيث قد استعملت في معنى العشب والكلأ بقرينه (رعينا) لأن الغيث لا يرعى وإنما يرعى العشب وهي قرينة مقالية والعلاقة بين الغيث والعشب أن الغيث هو سبب العشب فالعلاقة هنا سببية وإنما يعبر بالسبب عن المسبب للتدليل على التأثير العظيم للسبب في المسبب .
أنواع العلاقات في المجاز المرسل :
1- السببية : مثل رعينا الغيث .
2- الجزئية : وذلك عندما يعبر بالجزء والمراد الكل كقوله تعالى ( فتحرير رقبة )، وقوله تعالى ( فك رقبة)، وكذلك قولهم: أرسل القائد عيونه، والمراد جواسيسه ففي كل ذلك جاء التعبير بالجزء وأريد الكل فالعلاقة جزئية .
3- الكلية : وذلك عندما يعبر بالكل والمراد الجزء كقوله تعالى ( يجعلون أصابعهم في آذانهم ) والمعلوم أن الإصبع لا يمكن أن يجعل بكامله في الأذن ولكن الذي يجعل في الأذن هو الأنملة ولكنه أراد بيان حال المنافقين الذين أخافتهم أصوات الرعد وكان لا بد من إظهار شدة الخوف من ذلك الصوت فلم يكن التعبير (يجعلون أناملهم ) لأنهم في موقف خوف وذعر ومثل ذلك قول القائل شربت ماء الفرات أي بعضه.
4- المحلية : وذلك بأن يكون اللفظ المستعمل محلا والمعنى المراد ما حل فيه مثل قوله تعالى (فليدعو ناديه) والنادي هو مكان اجتماع القوم وهو لا يدعى وإنما يدعى أهله لكن عبر بالمكان عمن حل فيه للتدليل على كثرة من حل فيه حتى كأنك تدعي أن الكل مراد: الأشخاص والمباني، ومثل هذا قولنا (خرجت الكلية في نزهة برية ) فالكلية لم تخرج لكن خرج طلابها وإنما يسلك هذا الطريق للتدليل على كثرة الخارجين حتى كأن الكلية أصبحت دونهم عدم.
5- اعتبار ما سيكون: وهو أن يسمى الشيء باسم ما سوف يصير إليه في المستقبل كقوله تعالى (إني أراني أعصر خمراً ) فكلمة (خمرا) مقصود منها هنا ( العنب) لأن الذي يعصر هو العنب لا الخمر وعبر بالخمر دونه باعتبار ماسيكون لأن العنب إذا عصر سيكون خمرا.
6- اعتبار ماكان: وذلك بأن يسمي الشيء المستعمل باسم ما كان عليه من قبل كقوله تعالى (وآتوا اليتامى أموالهم) حيث سمى البالغين الذين أنس منهم الرشد ( يتامى) ومعلوم أن اليتيم لا يعطى المال إلا إذا بلغ وزال عنه اسم اليتم، وسر ذلك هو التذكير بحالهم فإن الوصي ربما إذا رأى اليتيم قد بلغ واشتد عوده جحد بعض ماله بحجة ان اليتم زال عنه، فذكره الله عند دفع المال بالحالة الموجبة للعطف والشفقة وهي اليتم.
ولمعرفة نوع العلاقة في المجاز المرسل ينظر في اللفظ المستعمل فإذا كان الجزء فهي جزئية وإن كان الكل فهي الكلية وهكذا.

من بلاغة الاستعارة في القرآن الكريم
قال تعالى( ولأصلبنكم في جذوع النخل ) فهنا استعمل حرف الجر وهو للظرفية مكان الحرف (على) وهو للاستعلاء لأنه من المقرر أن فرعون صلبهم على الجذوع لا فيها لكن لما أريد بيان كثرة المصلوبين وكثرة الجذوع التي صلبوا عليها فهي بعمومها تحيط بهم وهم في وسطها جاء التعبير بالظرفية ( في ) وأيضاً ففيها دلالة على شدة العذاب حيث إنه ـ كما يصور الحرف المذكور ـ قد صلبهم مقطوعي في الأطراف على الجذوع حتى كأنه الناظر إليهم لا يميزهم من الجذوع وبهذا يكون الجذع كأنه قد أحاط بهم فكأنهم فيه لا عليه.
قال تعالى ( وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض ) فكلمة ( يموج ) استعارة لأن الذي يموج هو الماء لا الإنسان لكن اختير طريقة الاستعارة هنا بدلا من الحقيقة بأن يقال: يدخل بعضهم في بعض لما لهذه الكلمة من دلالة في تصوير العدد الهائل من البشر في موقف الزحام فلا ترى العين إلا ما تراه في البحر الزاخر من حركة وتموج واضطراب.
قال تعالى ( وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون ) فكلمة نسلخ استعارة والمقصود (نزيل) وهي تصور للعين انحسار الضوء عن الكون قليلا قليلا وتصور دبيب الظلام إليه في بطء حتى إذا تراجع الضوء ظهر ما كان مختفياً من ظلمة الليل والكون كما يقرر علماء الفلك يغرق في ظلام هائل.

المجاز المرسل في الحديث النبوي:
قال صلى الله عليه وسلم:(اليد العليا خير من اليد السفلى) المقصود هنا أن المعطي خير من الآخذ ولكن عبر باليد عن كل منهما لأنها أظهر الجوارح في الإعطاء والأخذ ونسبت إليها الخيرية من باب التعبير بالجزء عن الكل فالعلاقة هنا جزئية ولم يقل هنا المعطي أفضل من الآخذ لما في المجاز المذكور في النص من تصوير يد أحدهما فوق والأخرى تحت وبهذا يظهر التفضيل.
وقال صلى الله عليه وسلم وهو يعد لغزوة تبوك ( من كان معه فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له ) ففي كلمة ظهر في الموضعين مجاز مرسل (علاقته الجزئية ) لأن المقصود الدابة، وقد عبر هنا بجزء من أجزائها وفي ذلك إيماء إلى أن هذا الجزء هو الأهم.
وقال صلى الله عليه وسلم ( إن من أكبر الكبائر أن يسب الرجل والديه ...) فمعلوم أنه ليس المقصود أن الرجل يسب أباه وأمه مباشرة بل هو متسبب في ذلك فالسب لهما في الحقيقة وقع من غيره ، لهذا فالعلاقة في هذا المجاز المرسل السببية .

المجاز اللغوي (الاستعارة)

2- المجاز اللغوي:
وهو الذي يكون فيه المرجع للغة بمعنى أن هناك نقلاً للكلمة من معناها الأصلي إلى معنى جديد، فإذا كانت العلاقة بين الكلمة والمعنى الجديد هي المشابهة ، فنسمي ذلك استعارة وإن كان غير المشابهة فنسميه مجازا مرسلا.
أ- الاستعارة:
هي نقل اللفظ من معناه الأصلي إلى معنى جديد لعلاقة المشابهة مع وجود قرينة مانعة من إرادة المعنى الأصلي .
أركان الاستعارة هي:
1- المستعار. 2- المستعار له. 3- المستعار منه.
وإيضاح ذلك يتجلى في قوله تعالى ( الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور ...) فكلمة (الظلمات) وكلمة (النور) كلاهم استعارة فأما الظلمات فالمقصود بها هنا الكفر أو عدم الهدى والجامع بينهما الضياع في كل منهما وعدم الوضوح فالمستعار هنا كلمة الظلمات والمستعار له الكفر والمستعار منه معنى الظلمة ومثلها في النور فالمقصود به الإيمان وبهذا ندرك أن المستعار له هو المشبه .
قرينة الاستعارة:
لا بد في الاستعارة من قرينة تمنع إرادة المعنى الأصلي وهي قد تكون لفظية أو معنوية فإذا قلت (رأيت أسداً يضيء القرآن قلبه ) فلا شك أنك تدرك أن كلمة (أسد) هنا استعارة والقرينة الدالة على ذلك والمانعة من إرادة المعنى الأصلي هي (يضيء القرآن قلبه ) وهي لفظية.
الجامع: الجامع في الاستعارة هو كوجه الشبه في التشبيه.
أقسام الاستعارة باعتبار ذكر المشبه والمشبه به:
1ـ الاستعارة التصريحية والمكنية:
أ‌- ( التصريحية ) وهي التي صرح فيها بالمشبه به كما في قوله تعالى ( اهدنا الصراط المستقيم) فقد شبه الإسلام هنا بالصراط المستقيم الذي لا عوج فيه بجامع التوصيل إلى الهدف في كل منهما، ثم حذف المشبه وهو الإسلام، وبقي المشبه به مصرحاً به في الكلام، ومثله الآية السابقة في الظلمات والنور .
قال الشاعر :
ولم أر مثلي من مشى البدر نحوه ولا رجلاً قامت تعانقه الأسد
ففي كلمة (البدر) و( الأسد ) استعارة تصريحية لأن مراد الشاعر الافتخار بأن أصحاب الرتب يمشون إليه وليس (البدر ) كما ذكر، ومراده أن الشجعان يقومون لمعانقته وليس ( الأسد )، لكنه عدل عن الحقيقة فشبه مستقبليه والماشين إليه بالبدور والأسْد بجامع العلو والرفعة والشجاعة والقوة والقرينة المانعة المشي والمعانقة فهو هنا صرح بالمشبه به فالاستعارة تصريحية .
ب‌- المكنية : وهي التي حذف فيها المشبه به و ذكر المشبه قال تعالى ( وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها ) ففي كلمة الأيمان استعارة مكنية وذلك أنه شبه الأيمان بالحبال ثم حذف المشبه به ورمز إليه بشيء من لوازمه وهو النقض على سبيل الاستعارة المكنية والقرينة المانعة هنا هي (تنقضوا) وهناك قاعدة عامة تقول :-
قرينة الاستعارة المكنية استعارة تخيلية فإسناد النقض إلى الأيمان شيء متخيل لا يلمس ولا يحس والجامع في هذه الاستعارة هو الربط والتوثيق .
وقال تعالى ( الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه) فالنقض هو الفسخ وفك التركيب فإذا قال قائل من أين ساغ استعمال النقض في إبطال العهد قلنا من حيث تسميتهم العهد بالحبل على سبيل الاستعارة فقد شبه العهد بالحبل بجامع التوثيق والربط في كل منهما ثم حذف ورمز إليه بشيء من لوازمه وهذا من أسرار البلاغة ولطائف اللغة حيث إنهم يسكتون عن ذكر المشبه به ثم يرمزون له بشيء من لوازمه فنتبين بذلك على مكانه ووجوده ومن هذا قوله تعالى ( واخفض لهما جناح الذل من الرحمة ) فالمقصود هنا التواضع للوالدين والذل لهما وقد شبه الذل هنا بالطائر ثم حذف المشبه به ورمز إليه بشيء من لوازمه وهو الجناح على سبيل الاستعارة المكنية .
وقال الشاعر:
وإذا المنية أنشبت أظفارها ألفيت كل تميمة لا تنفع
شبه المنية بالحيوان المفترس ثم حذف المشبه به ورمز له بشيء من لوازمه وهو ( الأظفار ) على سبيل الاستعارة المكنية والجامع في هذه الاستعارة هو الإهلاك في كل والقرينة المانعة (أنشبت أظفارها) استعارة تخيلية لو أجريت فيها .
أقسام الاستعارة باعتبار الملائم:
1- المرشحة هي ما يذكر فيها بعد أركان الاستعارة ما يلائم المشبه به مثل قوله تعالى ( اهدنا الصراط المستقيم) فهنا شبه الإسلام بالصراط أي الطريق بجامع الإيصال إلى الهدف في كل منهما وهذا من قبيل الاستعارة التصريحية ثم ذكر ما يناسب المشبه به وهو المستقيم وفي هذا ترشيح للاستعارة وتقوية للكلمة المستعارة.
وقوله تعالى( وهو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها ) شبه الأرض بالحيوان ثم ذكر ما يلائم الحيوان وهو(مناكبها) على سبيل الاستعارة التصريحية المرشحة.
2- المجردة : وهي عكس المرشحة يذكر فيها ما يلائم المشبه كما قال تعالى( وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم ) شبه الريح التي لا مطر بها بالمرأة التي لا تلد(العقيم)، ثم ذكر ما يناسب المشبه ( ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم ) وهذا يناسب المشبه وهو الريح على سبيل الاستعارة المجردة .
3- المطلقة : وهي التي لا يذكر معها شيء يلائم أحد الطرفين أو يذكر ما يلائمهما معاً قال تعالى ( لتخرج الناس من الظلمات إلى النور ) فشبه الكفر بالظلمات والإسلام بالنور ولم يذكر بعدهما شيء .

الاختبار الشهري الأول

يحدد في وقته مع أستاذ المادة.

المجاز العقلي

أنواع المجاز
للمجاز نوعان كما ذكرنا سابق: 1- المجاز العقلي 2- المجاز اللغوي
1- المجاز العقلي(الإسنادي)
تعريفه هو :( إسناد الفعل أو ما في معناه إلى غير ما هو له ) مثل إسناد البناء إلى الأمير في قولك: بنى الأمير المدينة والبناء في الحقيقة للعمال فهذا مثال على إسناد الفعل أما ما في معنى الفعل فهو اسم الفاعل مثل نهاره صائم وليله قائم واسم المفعول مثل محمد مأمون جانبه.
ولو عدنا إلى الأمثلة السابقة لوجدنا في المثال الأول: بنى الأمير المدينة, أن الفعل ( بنى) استعمل في مع معناه اللغوي الحقيقي , وهو رصف اللبن و تجصيصه وعمل لوازم البناء المعروفة , وكذلك كلمة (الأمير) فالمقصود الأمير الحقيقي , لذا فالكلمات هنا كلها مستعملة في معناها الحقيقي بخلاف المجاز اللغوي ، لهذا لم يسم هذا النوع مجازاً لغوياً ، وإنما سمي إسنادياً عقلياً لأن المجاز حصل بإسناد الفعل إلى الأمير، ولو أسند إلى العمال لكان حقيقية .
وإنما يلجأ إلى هذا الأسلوب دون الحقيقية بأن يقال : بنى العمال المدينة، لبيان أن الأمر لايقوم دونه، فالمدينة لم تبن ولم يكن ليكون لها ذلك دون إذن الأمير أو أمره ، ولهذا لا يصلح هذا الأسلوب في كل أمر، مثل : طبخ الأمير الأكل ، لأن هذا الأمر ليس بذي بال حتى يهتم به الأمير أو يأمر به .
أما ما كان في معنى الفعل من اسم الفاعل أو اسم المفعول فكما في قولهم: نهاره صائم، وليله قائم ، حيث أسند الصيام إلى النهار والقيام إلى الليل وهما زمان للصيام والقيام، وإنما الفاعل الحقيقي هو من يصوم ويقوم فيهما، وإنما أسند القيام والصيام إلى الزمن إشعاراً بأن الزمن ذاته قام وصام فكيف بصاحبه، وهذا لا يقال إلا إذا استغرق القائم والصائم معظم الليل والنهار، حتى كأن الزمن شارك صاحبه في العمل.
علاقات المجاز العقلي
قال تعالى : ( إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعاً يستضعف طائفة منهم يذبح أبنائهم ويستحيي نسائهم) ففي نسبة الفعل يذبح إلى فرعون مجاز عقلي لأن الذي مارس التذبيح في الحقيقة هم جنوده وعلاقة التذبيح بفرعون أنه هو الآمر به فهو سببه فبذلك نعلم أن العلاقة هي السبيبة ولكن نتساءل لماذا ترك التعبير بالحقيقة بأن يقال: يذبح جنود فرعون أبناءهم إلى المجاز؟ جواباً على ذلك نقول : لما كان فرعون هو السبب وهو الذي لولا أمره ما حصل شيء من التذبيح فما الجنود إلا آله فالمجرم الحقيقي هو فرعون وإن لم يمارس ذلك في الواقع لهذا جاء الأسلوب القرآني ناسباً التذبيح إليه إظهاراً لشنعة فعله وقبح جريمته وكأنك وأنت تقرأ هذه الآية تتشخص أمام عينيك صور الأطفال وفرعون بينهم يُعْمِل في رقابهم سكينه ودماؤهم تسيل وأشلاؤهم تتناثر لأنه ليس بذبح لكنه تذبيح .
{أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاء عَلَيْهِم مِّدْرَاراً وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ }الأنعام6
معلوم ان الذي يجري في الحقيقة هو الماء، والنهر هو مكان جري الماء وهو لا يبرح مكانه، لكن هنا أسند الجريان إلى النهر لا إلى الماء لأن الأنهار هي مكان الجريان فالعلاقة هنا المكانية، وإنما أسند الجري إلى الأنهار التي هي المكان للإشعار بامتلاء تلك الأنهار بالمياه ( لأنه لا يعبر بالمحل إلا إذا كان الحال قد ملأ المحل )، وقد يكون في ذلك إشعار بسرعة جري الماء حتى يتخيل الرائي أن المكان هو الذي يجري .
ومن الشواهد أيضا: قوله تعالى ( إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيباً)، وقوله تعالى ( وفجرنا الأرض عيونا )، وقوله تعالى ( بل مكر الليل والنهار ).

الأحد، 12 أكتوبر 2008

المجاز- في القرآن، أنواعه

ثانيا:المجاز
المجاز في اللغة : مأخوذ من المجاوزة وهي التعدي والتخطي .
وفي الاصطلاح، هو: استعمال اللفظ في غبر ما وضع له لقرينة مانعة من إرادة المعنى الأصلي، فإذا قلنا مثلا : رأيت أسداً في الغابة فهذا استعمال حقيقي ؛ لأن كلمة الأسد تدل في هذه الجملة على الحيوان المعروف ، وهذا ما يدل عليه أصل اللغة ولكن لو قلنا : رأيت اليوم أسداً يخطُب ، هنا يكون استعمال كلمة أسد مجازيا ، لأننا نقلنا الكلمة من معناها الأصلي وهو الحيوان المفترس وتجاوزنا بها دلالتها الوضعية وجعلناها للإنسان ، ولما كان هذا المعنى هو غير المعنى الأصلي كان لا بد من قرينة تعرفنا المعنى المقصود ، وتمنع من إرادة المعنى الأصلي ، وتتجلى في مثالنا هذا في كلمة ( يخطُب ) .
وهذا النوع من المجاز يسمى المجاز اللغوي لأن مرده إلى اللغة ، وفي المثال المذكور نجد أن العلاقة بين الكلمة المنقولة ( أسد ) وبين المعنى المراد وهو ( الرجل الشجاع ) هي المشابهة وهذا ما يسمى بالاستعارة ، ولكن لو قلنا : لمحمد علي يد ، لكان استعمال كلمة ( يد ) مجازيا ، لأن المراد بها هنا النعمة والفضل ، لكننا نتساءل عن العلاقة بين الكلمة المذكورة وهي ( يد ) وبين المعنى المراد وهو ( المعروف )، فنجد هنا أن العلاقة هي غير المشابهة لأن العلاقة التي تربط اليد بالمعروف أنها سببه ، وما كانت فيه العلاقة غير المشابهة يسمى مجازا مرسلا .
وأما إذا قلنا بني الأمير المدينة ، فإننا نجد أن إسناد الفعل ( البناء ) إلى الأمير لم يجر على الحقيقة ؛ لأن الحقيقة أن البنائين هم الذين بنوا ، وأما الأمير فقد أمر بذلك، وعلى هذا فالكلام مجاز لكنه يختلف عما سبق في أن كلمة (بنى ) وحدها حقيقة ، وكذلك كلمة ( الأمير ) لكن لما أسند البناء إلى الأمير ظهر المجاز .
لهذا فالمجاز هنا في ( الإسناد ) والدليل عليه العقل ولهذا نسميه مجازا إسناديا أو عقليا ، ولو تأملنا هذا النوع لوجدنا أنه ليس فيه نقل للكلمة من معناها الأصلي إلى معنى جديد ، لهذا لم نسمه مجازا لغويا، ونصل من هذا كله إلى أن المجاز نوعان :

المجــــــاز



عقلي لغوي
( والتجوز فيه في الإسناد لذا يسمى إسناديا)
استعارة مجاز مرسل
( إذا كانت العلاقة المشابهة ) ( إذا كانت العلاقة غير المشابهة )


القرآن والمجاز

هذا الموضوع له حساسيته ، لمون بعض الفرق، سخرت القول بالمجاز، لتعطيل أسماء الله وصفاته من معانيها، وتأويل آيات الكتاب العظيم، وصرفها عن معانيها، وقد تعدد الأقوال في هذا الشأن على ثلاثة أقوال :
1- قول المجيزين , فهناك من أطلق القول في المجاز فوسع مجاله حتى أنكر عن طريقه صفات الخالق سبحانه؛ فأدخله فيما ليس له فيه مجال وليس عنده فيه دليل يصلح قرينه لما يقول .
2- قول المانعين؛ وهناك من منع المجاز بالكلية فقال لا مجاز في اللغة ولا في القران, وبعضهم قال : بل هو في اللغة دون القرآن وهذا التفريق لا يستقيم، لأن القران نزل بلغة العرب, وإنما فعلوا ذلك احتياطا من تأويل الصفات و تعطيلها , ردا على أصحاب القول السابق.
3- قول المعتدلين , وهم القائلون بوجود المجاز على أنه أسلوب عربي في القران واللغة وهو القول الصحيح فالمجاز موجود في اللغة و القرآن لكن يجب أن نفرق بين ما لعقولنا مجال فيه، وما ليس لها مجال فيه , فإذا كان الكلام بين البشر فيظهر فيه المجاز كأن يقول أحدهم لصاحبه (لم يطاوعني قلمي على الكتابة), فلا شك أن هذا مجاز , والعقل يدل على ذلك وهو من مجالاته لكن في كلام الله وكلام الرسول صلى الله عليه وسلم , وهو (الوحي ) فلا يحق للعقل أن يتدخل في رفض مراد الله بحجة أنه لا يعقل , فقد قال سبحانه عن السماء والأرض ( فقال لها وللأرض اتيا طوعاً أو كرها قالتا أتينا طائعين ) فنسب القول إلى السماء والأرض , فلا ينبغي هنا أن ننكر كلام الأرض والسماء مع الله سبحانه بحجة أننا لم نسمع ذلك أو لأنه يستحيل عقلاً, لأن عقولنا تقصر عن ذلك , فالخطاب هنا بين الخالق والمخلوق وهذا لا مجال للعقل فيه لأن الله تعالى قال):وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم) إن المخلوقات والجمادات وكل الأحياء تعبد الله ونحن لا ندرك من ذلك شيئا فكيف بعد هذا نقول لا يُعقل.
تعال لنتأمل هذه الآيات:
قال تعالى:(فهو في عيشة راضية)، قالوا في المراد عيشة (مرضية) فعبر باسم الفاعل وأريد اسم المفعول، على سبيل المجاز، فالعلاقة المفعولية وإنما قيل راضية للتدليل على عظم تلك العيشة التي بلغ من عظم نعيمها أنما هي ترضى فكيف بمن يعيش فيها وإنني أقول (ولا مانع من أن تكون هذه اللفظة على الحقيقية لأن الكلام عما في الآخرة وليس هناك سبيل لمعرفة حقيقية ذلك إلا النقل، وليس ذلك بعظيم على الله أن يجعل العيشة ترضى هي, وهذا أعظم في النعيم، خصوصا إذا علمنا أن الطعام إذا اشتهاه المؤمن يوم القيامة تدلى له وهو في مكانة فالآخرة فيها ما ليس في الدنيا مما يعرف الناس ويعقلون.
وقال تعالى :( فلينظر الإنسان مم خلق , خلق من ماء دافق )، قالوا أي (مدفوق) لأن الذي يدفق ذلك الماء هو الإنسان , فهو مجاز علاقته مفعولية, ولكن ليس هناك ما يمنع أن تكون الكلمة على حقيقتها , وهذا من ألوان الإعجاز القرآني , لأنه ثبت مجهريا بالنظر أن الدفقة التي تخرج من الرجل حاملة ملايين الحيوانات المنوية تتحرك بذاتها لأنها كائنات حية وتستمر في التسابق إلى الرحم فهي في الحقيقة تدفع نفسها لا الرجل يدفعها، و هذا أمر لم يعلم إلا في الأزمنة المتأخرة وهذا يدلنا على أن كلمات القران يجب أن تكون على ظاهرها حتى ولو قيل فيها بالمعنى المجازي أصلا فيجب ألا تقصر عليه.
وقال تعالى (وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لايؤمنون بالآخرة حجاباً مستورا)، قالوا أي: (ساترا) , فهو مجاز عقلي مثل الشواهد السابقة وعلاقته الفاعلية، ولكن هذا لا يمنع أن تكون الكلمة على حقيقتها؛ لأن الحجاب الذي بين المؤمن قارئ القران وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة لا يرى بالعين فهو مستور عن الناس, ومع هذا يمنع الله به الضرر فهو أعظم دلالة على قدرة الله.
وبهذا يثبت أن ما قاله الله أو ما قاله الرسول صلى الله عليه مسلم يجب أن يجري على حقيقته, ولا ندخله في باب المجاز, لعدم الدليل المانع من المعنى الحقيقي, تأمل قوله تعالى عن النار{سمعوا لها شهيقاً وهي تفور تكاد تميز من الغيظ}, فقد ذكر البلاغيون أن نسبة الشهيق والتميز إلى النار مجاز, لأن الشهيق من صفات الأحياء والنار بزعمهم لا حياة فيها, وهذا زعم باطل لعدم الدليل على ذلك, فالنار من علم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله والصحيح أنها حقيقة والنار فيها حياة بدليل قوله صلى الله عليه وسلم:(يخرج من النار عنق له عينان يبصر بهما ولسان ينطق به), إذا فما ينسب إلى النار ينبغي أن يجرى على ظاهره.
ومثل هذا كل صفات الله فإنه لا دخل للعقل في الحكم عليها بل يجب أن نثبتها كما ذكرها الله فإذا وصف الله نفسه سبحانه بالمجيء فنثبت المجيء له على ما يليق بجلاله وعظمته كما قال تعالى:(وجاء ربك والملك صفا صفا) ولا نقول المراد: جاء أمرك ربك كذلك صفة اليد والعين و الغضب كلها نثبتها لله لأنه وصف نفسه بها سبحانه على الوجه اللائق به جلت قدرته.

التشبيه التمثيلي- في السنة والقرآن- أغراض التشبيه

رابعاً : التشبيه التمثيلي
وهو ما كان وجه الشبه فيه منتزعاً من متعدد ، وهو تشبيه صورة بصورة مثل قول الله تعالى : ( مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا ً) فقد شبه سبحانه صورة اليهود والتوراة بين أيديهم وفيها حكم الله والهدى والنور وهم معرضون عنها، بهيئة الحمير توضع الكتب على ظهورها ولا تنتفع بها ولا ينالها إلا التعب والمشقة والجامع بين الحالين وجود المشقة والعنت وانتفاء الفائدة مع قربها وإمكانها.
ومن هذا قول الشاعر :
إن أنسى لا أنسى خبازا مررت به يدحو الرقاقة مثل اللمح بالبصر
مابين رؤيتـها في كـفة كـرة وبين رؤيتـها قـوراء كالقمر
إلا بمقــدار ما تنـداح دائرة في لجة الماء يلقى فيها الحجـر
شبه سرعة الخباز في تحويل العجين من حالة التكوير إلى حالة التدوير ، بسرعة الدائرة في الماء عندما يلقى فيه الحجر ، والجامع بينهما ( وجه الشبه ) الاتساع من الصغر إلى الكبر بصورة تدريجية .
ومن هذا قول المتنبي عن الأسد:
يطأ الثرى مترفقا من تيهه فكأنه آس يجس عليلا
شبه الأسد وهو يمس الأرض مسا خفيفا بسبب كبريائه ، بطبيب يعاين مريضاَ فهو يضع يده عليه برفق في مواضع عدة من جسده .
خامساً : التشبيه القريب والغريب.
التشبيه القريب : وهو المعروف المتداول الذي يدرك بسرعة وهو ما ينتقل فيه من المشبه إلى المشبه به من غير حاجة إلى تأمل كبير ، وهو كثير متداول. مثل: محمد كالأسد .
التشبيه الغريب : وهو م لا ينتقل فيه من المشبه إلى المشبه به إلا بعد تأمل ونظر كقول الشاعر :
والشمس كالمرآة في كف الأشل لما بدت من خدرها فوق الجبل
يشبه الشاعر الشمس عند بزوغها في الصبح وهي تتوهج مستديرة بالمرآة في كف المرتعش وهي صورة نادرة كما نرى .
وقول الآخر:
بليت بلى الأطلال إن لم أقف بها وقوف شحيح ضاع في الترب خاتمه
يشبه الشاعر وقوفه على أطلال من يحب، ومكوثه هناك بوقوف رجل بخيل سقط خاتمه الغالي عنده في التراب فهو لا يبرح مكانه حتى يجده .
سادسا: التشبيه الضمني.
ما يلمح فيه التشبيه لمحاً وليس له صورة واضحة في الكلام ودائما يكون التشبيه فيه لأجل ادعاء يسبق التشبيه، كقول الشاعر :
وإذا أراد الله نشـــر فضيلة طويت أتاح لها لسان حــسود
لولا اشتعال النار فيما جاورت ما كان يعرف طيب عرف العود
شبه الشاعرُ الحاسدَ بالنار، وشبه طيب الذكر بالعود، وذلك للتدليل على الحكم الغريب الذي أصدره الشاعر في البيت الأول ، وهو أن الحسود هو الذي ينشر فضائل محسودة ، ومن هذا القبيل قول الآخر :
دان إلي أيدي العفاة وشاسـع عن كل ند في الندى وضريب
كالبدر أفرط في العلو وضوؤه للعصبـة السارين جد قريب
وقول الآخر :
اصبر على مضض الحسو د فإن صبرك قاتله
فالنار تأكل بعضــها إن لم تجد ما تأكله
وقول الآخر :
قد يشيب الفتى وليس عجيبا أن يُرى النَّوْر في القضيب الرطيب
وقول الآخر :
فإن تفق الأنام وأنت منهم فإن المسك بعض دم الغزال
وقول الآخر :
ومن يهن يسهل الهوان عليه ما لجــرح بميت إيلام
وقول الآخر :
وإن كنت تبغ العيش فابغ توسطا فعند التناهي يقصــر المتطاول
توقى البدور النقـص وهي أهلة ويدركها النقصان وهي كوامل
لماذا يؤثر التشبيه الضمني في النفس ؟
لهذ النوع من التشبيه ميزة معينة ، وتأثير خاص في النفس ، وتجد جمالاً وطرافة فما سر ذلك ؟ إن ذلك يعود إلى يؤثر فيك بصور متعددة على النحو التالي:
أولاً : ينقلك من المعقول إلى المحسوس، ومعلوم أن المعاينة ليست كالخبر .
ثانيا : يقيم الحجة ويذهب العجب ويدفع الغرابة .
ثالثا : فيه طرافة لأنه يجمع المتباعدات والمتباينات أحيانا .
رابعاً : يحملك على إعمال الفكر وكد الذهن من أجل تفسير المعنى الغريب، فإذا جاء التشبيه استقر المعنى في النفس ووعاه العقل ، لأنه جاء بعد تشوف وتشوق .

صور من التشبيهات في القرآن
للتشبيه القرآن ميزات وخصائص أهمها :
أولاً : عدم تقيده ببيئة أو زمن معين، فتجده يتعلق بالإنسان أو بظاهرة من ظواهر الكون بحيث يكون مقبولا ومفهوما، في كل زمان ومكان .
ثانياً : الاتساق التام بين الغرض والتشبيه.
ثالثاً : الدقة في اختيار اللفظ في كل أركان التشبيه .
وسنعرض الآن صورا من التشبيهات القرآنية، ونحاول بيان ما فيها من أسرار.
قال تعالى : ( والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم ) .
شبه الله سبحانه وتعالى القمر في حالة تحوله وتناقصه شيئا فشيئا بعرجون النخل القديم المنحني والعرجون هو العود الذي يحمل التمر ولا شك أنها صورة قامت بالغرض كاملا من حيث الشكل واللون ، لأن ذلك العود إذا يبس تقوس واصفر وتضاءل فكان كالقمر في آخر منازله وأولها ( المحاق والهلال ) .
وقال تعالى : ( وله الجوار المنشآت في البحر كالأعلام ) .
شبه سبحانه السفن الضخمة القائمة في وسط البحر بالجبال العظيمة ، كما يدل عليه التعبير بالأعلام دون الجبال، وفي اختيار نوع الكلمة في المشبه به وهو الأعلام ، دون الجبال سر يتعلق بمدلول الكلمة ذاتها ، ذلك أن للأعلام دلالتين الجلال والجمال ، وذلك أن العلم في اللغة يدل على الجبل و تأخذ منه الضخامة والرسو ، كما يدل على الراية وهي رمز جمال ورفعة، فلما أريد الجمع بين الجمال والجلال معا، شبهت السفن بالأعلام ، ولو قيل : كالجبال لدل على الجلال دون الجمال، وهذا لا يتناسب مع السفن في كل أحوالها .
ولهذا لما أريد مقصد الجلال فقط قال سبحانه : ( وهي تجري بهم في موج كالجبال )، فقد جاء التشبيه للموج بالجبال، لأنه ليس المقصود هنا إبراز جانب الجمال بل المقصود إظهار الضخامة المخيفة ، وهذا كتشبيه الموج بالظلل في قوله تعالى : ( وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين ) ، ولكن مالفرق بين التشبيهين ؟
جواب ذلك أن الآية الأولى التي كان فيها المشبه به ( الجبال ) كان المراد منها بيان الشكل والهيئة وبيان طغيان الماء وعلوه وارتفاعه لأنه ماء نزل من السماء وماء خرج من الأرض فالتقى الماء على أمر قد قدر .
أما الآية الثانية فهي مصورة للعذاب ولا يكفي في ذلك مجرد بيان الحجم بل لابد من ذكر ما يرهب ويخيف ولا شك أن تصوير الموج على أنه ظلة يعلو الرؤوس أهلع وأخوف من مجرد التشبيه بالجبل القائم في مكانه لهذا لما أريد ذكر الجبل في جانب العذاب ذكرت له حاله خاصة كما في قوله تعالى : ( وإذا نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة ) فنرى هنا في هذه الآية أن الجبل شبه بظلة وهذا يعني أن الظلة أشد من التخويف من مجرد ذكر الجبل وذكرت معه كلمة ( فوقهم ) لأنه في العادة لا يكون كذلك ، بل يكون بجانبهم .
وقال تعالى : ( الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس) .
فهذا تشبيه لآكل الربا بالمجنون الذي يتخبط وغاية التشبيه نقل صورة آكل الربا البشعة حتى تنفر النفوس من هذه الجريمة الشنعاء ، لأن النفوس جبلت على كره منظر المصروع ولايكاد أحد يخالف في بشاعة منظره ، فلما كان المرابي في الدنيا يسلب أموال الناس ويضيق عليهم كان الجزاء من جنس العمل فذكر الله لنا صورته يوم القيامة أنه يقوم من قبره مجنونا يتخبط ، قال بعضهم يقوم ويسقط كأنما يضرب من أمامه ومن خلفه والعياذ بالله .
وقال تعالى : ( ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة ) .
شبه الله سبحانه الزوجة التي تركها زوجها من غير حفظ ورعاية مع أنها في عصمته بالشيء المعلق فلا هو على الأرض ولا هو في السماء ولا شك أن هذه الصورة البليغة توجد في قلوب الأزواج شفقة ورحمة لأن الإنسان مجبول على رحمة من كان على هذه الصورة حتى ولو كان حيوانا فكيف إن كان إنسانا ً.

صور من التشبيه في السنة
قال صلى الله عليه وسلم : ( مثلي ومثلكم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله جعل الفراش وهذه الدواب يقعن فيها وجعل يحجزهن ويغلبنه فيقعن فيها فذلك مثلي ومثلكم، أنا آخذ بحجزكم عن النار وأنتم تقتحمون فيها ) .
هنا شبه النبي صلى الله عليه وسلم نفسه برجل على النار يحاول دفع الفراش عن الوقوع فيها لكنها تعاند وتقتحم فتهلك وتحترق ، شبه ذلك بحاله مع أمته صلى الله عليه وسلم فهو يدعوهم إلى النجاة ويمسكهم عن النار وبعضهم يرفض هديه ويختار النار .
ومن التشبيهات النبوية قوله صلى الله عليه وسلم : ( يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعي الأكلة إلى قصعتها ، قالوا أمن قلة نحن يومئذ يا رسول الله ، قال : لا ولكنكم غثاء كغثاء السيل . . . ) فهنا تشبيهان تمثيليان أولهما ، تداعي الأمم على هذه الأمة كتداعي الأكلة على القصعة ، إنها صورة عجيبة واقعية معبرة ، يحسها كل إنسان لأنها من البيئة، ومن هنا يأتي تأثيرها، ويعظم مدلولها.
المشبه: الأمم وهي تتداعى أي يدعو بعضها بعضا إلى خيرات هذه الأمة ، والمشبه به تداعي الأكلة أصحاب النهم والشره إلى طعام لذيذ مغر كما يدل عليه التعبير بالقصعة المشعرة بالسعة والامتلاء ، والجامع هنا هو الاهتمام والتنادي على أمر مهم، يا لها من صورة ما أعظم مدلولها على ما نحن فيه اليوم ، إنها صورة من البيان النبوي الرائع .
والتشبيه الثاني غثاء كغثاء السيل ، صورة أخرى رائعة ، فالمشبه هو الأمة الكثيرة بلا أثر، والمشبه به غثاء السيل ، واختيار الغثاء له مدلوله ، إذ هو بمجوعه ومنظره كثير ، لكنه بمخبره وجوهره قليل بل ضعيف ، وهكذا الأمة في حالة الضعف ملايين البشر دون فائدة ، ثم إن غثاء السيل يحمله السيل دون هدى ، لا اختيار له ، فهو يقع من حفرة في أخرى ، إلى أن يأتي هاوية كبرى فينتهي فيها ، وكذلك الأمة الضعيفة ، غيرها يسير أمرها ، حتى يوقعها في كارثة لا تخرج منها ، كذلك غثاء السيل خليط من أشياء كثيرة لا ترابط بينها إلا الضياع وعدم الارتباط بشيء، ففي الغثاء أعواد وحشائش وقطع وخِرق ، وبقاياً أخشاب وهكذا، والأمة إنما كانت هزيلة يوم أصبحت خليطا لا رابط بين أجزائه .
إنها صورة أخرى من البيان النبوي الرائع ، لا بد أن نفهمها ونعتبر منها .

أغراض التشبيه
للتشبيه أغراض نذكر بعضها هنا للفائدة :
أولاً : بيان إمكان المشبه، مثل قول الشاعر:
قد يشيب الفتى وليس عجيبا أن يرى النور في القضيب الطيب
ثانياً : تقدير حال المشبه، مثل قوله تعالى: .
( مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا )
ثالثاً : بيان مقدار المشبه، مثل قول الشاعر:
ما لعمر إلا ليلة كأن الصبح لها جبين
رابعاً : تزيين المشبه، كقوله تعالى عن الحور العين: (كأنهن الياقوت والمرجان )، أو تقبيحه كقول الشاعر: وإذا أشار محدثا فكأنه قرد يقهقه أو عجوز تلطم


تدريبات
اقرأ حول هذه الآيات في التفاسير التي سبق ذكرها في أول الكتاب ، وخصوصاً ما يتعلق بالتشبيه وسجل النوادر والجوانب البلاغة التي تعرض لك حول ( نوع التشبيه ، نوع الأداة ، الزيادات والتقييدات ، والتنوع ) .
1. قال تعالى : ( مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شيء ذلك هو الضلال البعيد ) إبراهيم (18)، وازن بين هذه الآية وقوله تعالى : ( والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجد شيئا ) النور ( 39 ) .
2. قال تعالى : ( فتول عنهم يوم يدع الداع إلى شيء نكر ، خشعا أبصارهم يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر ) القمر ( 7 ) .
3. قال تعالى : ( كأنهم أعجاز نخل خاوية ) الحاقة .
4. قال تعالى : ( فمالهم عن التذكرة معرضين كأنهم حمر مستنفرة ، فرت من قسورة) .
5. قال تعالى : ( إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنها بنيان مرصوص ) .

التشبيه (المطلق والمقيد- المفرد والمتعدد- أدوات التشبيه)

أولا : التشبيه
تعريف، هو: إلحاق أمر بأمر لوجود جامع بينهما ، وله أركان أربعة هي :
1ـ المشبه
2ـ المشبه به .
وهذان هما طرفا التشبيه، ولابد أن يكونا مذكورين ولو حذف أحدهما تحول التشبيه إلى استعارة .
3ـ وجه الشبه وقد يذكر وقد يحذف .
4ـ أداة التشبيه وقد تذكر وقد تحذف .
هذه هي أركان التشبه ودعائمه، فلو قلت : هو كالبحر كرما ، كان التشبيه كامل الأركان، ف(هو ) المشبه ،و(البحر) المسبه به، و( الكاف ) أداة التشبيه ، و( كرما) وجه الشبه، وقد تحذف الأداة ووجه الشبه فيقال : هو البحر ، فيبقى تشبيها لوجود الطرفين ، لكن لو قلت : قابلت بحرا ، لتحول التشبيه إلى استعارة، لأن الاستعارة في الحقيقة تشبيه حذف أحد طرفيه .
قيمة التشبيه وبلاغته.
ليس التشبيه أقل قدرا من المجاز ، ولا من الكناية ، لأنه يزيد المعنى وضوحا ، ويكسبه تأكيدا ، ويزيل عنه كل عوامل الإبهام ، لذا أطبق الأقدمون وغيرهم علي استعماله ، وكثر في السنة والقرآن جريانه ، مما يدل على مكانته ، وعظيم منزلته ، ولقد أبرز قدره عبدالقاهر الجرجاني في أسرار البلاغة وأوضح أن المعنى المراد إن كان مدحا كان بالتشبيه أبهى وأفخم في النفوس وأعظم ، وإن كان ذما كان مسه أوجع ، وميسمه ألذع ، وإن كان وعظا كان أشفى للنفوس وأنفع .
أقسام التشبيه :
تقسيمات التشبيه كثيرة ، ولكن ما يهمنا هو الأثر البلاغي للتشبيه بغض النظر عن نوعه ، لذا لن نخوض كثيرا في التقسيمات التي تجهد الذهن وتبعد عن تربية الذوق ، إلا في حدود الضرورة ، ومن تلك الأنواع:
أولا : التشبيه المطلق والمقيد .
للتقييد دلالات معينة ومهمة في التشبيه ، والتقييد والاطلاق يتعلقان بالطرفين : المشبه والمشبه به، وقد يكون الإطلاق والتقييد في المشبه والمشبه به معا أو في أحدهما مثال : ( الساعي في غير طائل كالراقم علي الماء )، فتجد التشبيه هنا قد قيد فيه الطرفان ، الساعي مقيد في ( غير طائل ) وهو المشبه ، والمشبه به الراقم مقيد ( على الماء ) ، فالمقصود: ساعٍ معين ، وراقم معين وهذا يحدد المراد من التشبيه .
وقد نجد القيد في أحد الطرفين دون الآخر مثل : زيد المقدام كالأسد ، فهنا حصل التقييد للمشبه ، وهو يشعر بأنه ليس كل ( زيد ) يكون كالأسد وإنما المقصود الموصوف بالمقدام ، ومثل هذا قولك : هذا شعر أسود كالليل ، قيد المشبه وأطلق المشبه به .
أما مثال إطلاق المشبه وتقييد المشبه به فكقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( الناس كإبل مائة لا تجد فيها راحلة ) ، فالناس مشبه وهو مطلق غير مقيد وهذا يعنى أن هذا وصف للناس بعمومهم ، وأن هذا هو الغالب عليهم ، بينما كان المشبه به ( الإبل ) مقيدا بالإضافة (مائة ) فهو عدد كثير ، وأيضا بالوصف : لا تجد فيها راحلة ، أي لا نفع فيها على كثرتها ، ولو حذف هذا القيد لكان تشبيه الناس بالإبل غير معروف الهدف ، فلا يدرى أللذم هو أم للمدح؟ ، لكن القيد حدد ذلك ، وهذا هو أثر القيد .
أما ما أطلق فيه الطرفان فمثل : زيد كالأسد ، فالمقصود مطلق المشابهة فيما عرف به الطرفان ، من غير تحديد معين لوصف خاص ، أو لفت لسمة معينة .
ثانيا : التشبيه المفرد والمتعدد .
إذا قلنا أن الإطلاق والتقييد لهما الأثر الواضح في تحديد المراد من التشبيه ، فكذلك التعدد والإفراد في التشبيه له مدلوله ، فالتعدد يكون مطلوبا إذا كان التشبيه الواحد لا يفي بالغرض فيكون التشبيه الثاني لإتمام المراد ويفرد إذا كان المقام يعنى شيئا واحدا .
مثال المفرد : هو كالسحاب في الجود ، فالمشبه : ( هو ) مفرد ، المشبه به : ( السحاب) مفرد ، ومثال المتعدد : قوله تعالى : ( أنها ترمي بشرر كالقصر كأنه جمالة صفر) فالمشبه : ( الشرر) وهو مفرد والمشبه به : ( القصر ) و( جمالة صفر ) وهو متعدد ، فهنا حصل التعدد في المشبه به ، وأما المشبه فمفرد ، وبيان جمال هذا التشبيه على النحو الآتي:
شبه الله سبحانه وتعالى الشرر المتطاير من نار جهنم يوم القيامة ببناء عظيم وهو(القصر) أولا، وبـ(جمالة صفر) ثانيا ، وقد جاء التفصيل والتعدد في المشبه والمشبه به لاستيفاء الأقسام واستكمال الصورة لأن بعض الشرر المتطاير يكون عظيما كبيرا كالقصر وبعضه لونه أصفر كالجمال الصفر ، وجاء الوصف بالصفر لأنه لون محبب في الإبل ، أو لأن الصفرة أنواع والمقصود منها هنا هو ما كان مثل صفرة الإبل ، فتبين هنا أن التعدد قد أكمل الصورة ، فواحد من التشبيهات لبيان الحجم والثاني لبيان اللون ، أو لأن المراد بيان المقياس لشرر تلك النار ، فقيس بما يناسب أهل المدر ( المدن ) بالقصور وهي أعظم ما عندهم ، وقيس بالجمال الصفر ، وهي من أضخم ما يعرف أهل الوبر ( البادية ) من الحيوانات، وقد يكون كل هذا مرادا وهو أحسن .
وقال تعالى : ( فيهن قاصرات الطرف لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان ) إلى قوله تعالى : ( كأنهن الياقوت والمرجان )، فالمشبه : قاصرات الطرف مفرد ، لكنه مقيد ( لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان )، والمشبه به : الياقوت والمرجان ، متعدد مطلق ، وبيان ذلك أن الله شبه سبحانه وتعالى الحور العين يوم القيامة بالياقوت والمرجان ، لأنهما يجمعان صفة الشفافية وكثرة الألوان وبجانب ذلك هما من أنفس المجوهرات وهذه الصفات تتوجب الحفظ والصون لهما ، فخرجنا من هذا التشبيه بالصفاء ،وكثرة الألوان ، والنفاسة ، وضرورة الحفظ.
ثالثا : أقسام التشبيه من حيث الأداة ووجه الشبه ـ الأداة وأثرها
لابد أن نتذكر أن أركان التشبيه هي : المشبه والمشبه به ، والأداة ووجه الشبه ، وما سبق من أقسام كان يتعلق بالطرفين : أما هنا فالكلام عن الباقي : الأداة ووجه الشبه.
أ ـ التشبيه المرسل : وهو ما ذكرت فيه أداة التشبيه مثل : زيد كأنه أسد .
ب ـ التشبيه المؤكد : وهو ما ذكرت فيه أداة التشبيه مثل : زيد أسد في الشجاعة.
فنلحظ أن المدار هنا على الأداة ، حذفا وذكرا ، وليس حذفها مثل ذكرها .
قال تعالى : ( وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب ) فهنا حذفت الأداة والتقرير وهي تمر كمر السحاب، وسر حذف الأداة لأن الجبال سوف تكون يوم القيامة كالسحاب في ارتفاعه وتحليقه وحذفت الأداة لأن القضية متساوية، ولبيان عظم التغير الذي سيحصل يوم القيامة ، فالجبال التي في عرف الناس كانت مثلا للثبات والرسو سيأتي عليها يوم ، تتناثر كالقطن ، كما قال سبحانه : ( يوم تكون الجبال كالعهن المنفوش )، وتسير في السماء كأنها سحاب سواء بسواء، فسقوط الأداة وهي الكاف هنا أشعرنا بمدى التساوي بين الصورتين : الجبال والسحاب ، وإنما كان ذلك كذلك ،لأن الجبال معروف عنها الثقل والثبات فتشبيهها بالسحاب نقلة كبيرة عما كانت عليه فحتى لا يظن التفاوت بينهما سقطت الأداة .
ج – التشبيه المفصل : وهو ما ذكر فيه وجه الشبه أما إذا حذف فهو مجمل .
د- التشبيه البليغ : وهو ما حذف منه وجه الشبه والأداة وهو ما كان مؤكدا مجملا .
الأمثلة التوضيحية :
محمد كالبحر في الجود : تشبيه مرسل مفصل لوجود الأداة ووجه الشبه .
محمد بحر في الجود : تشبيه مؤكد مفصل ذكر فيه وجه الشبه ولم تذكر الأداة .
محمد كالبحر : تشبيه مرسل مجمل ذكرت فيه الأداة ولم يذكر فيه وجه الشبه .
محمد بحر : تشبيه مؤكد مجمل وهو البليغ الذي حذفت منه الأداة ووجه الشبه .

الفرق بين الكاف وكأن.
بما أننا تحدثنا عن أدوات التشبيه فيحسن هنا أن نشير إلى أن أداتي التشبيه الرئيستين هما الكاف وكأن، وبينهما بعض الفروق فـ ( كأن ) تستعمل في مواطن المبالغة حين يقوى الشبه ويشتد فإذا قلنا زيد كالأسد فهو ليس مثل قولنا زيد كأنه أسد فمع الكاف نقر بأن زيداً أقل من الأسد ونلحقه به في الشجاعة أما مع ( كأنّ ) فإنا ندعي ونبالغ في وصف زيد بالشجاعة حتى كأنه أسد في صورة آدمي لذي قالت بلقيس لما رأت عرشها ( كأنه هو ) ، وأيضا تأتي (كأن) كثيرا في التشبيه الذي فيه غرابة، وذلك إما لأنه غير متحقق بالكلية أو لأنه بعيد الحصول قال تعالى : ( ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا ) فلا شك أن إحياء نفس واحدة ليس هو إحياء للناس جميعا لكن أريد بيان عظمة أجر إحياء النفس الواحدة .

مقدمة (فن البيان)

البيان لغة هو: الكشف والظهور، واصطلاحا هو: الفن الذي يعرف به كيفية التعبير عن المعنى الواحد بطرق مختلفة، وهذه الطرق هي أهم أدوات التصوير، الذي يكشف المعنى بأرقى أسلوب، وهذا ما يتضح من مصطلح البيان الذي يعنى الكشف، وهو يشمل موضوعات ثلاثة:
1ـ التشبيه .
2ـ المجاز بنوعيه اللغوي والعقلي .
3ـ الكناية .
وإذا أردنا أن نطبق التعريف على معنى الكرم ، فيمكننا أن تقول : فلان كالبحر، فتكون الطريقة التي اخترناها هي التشبيه، وعلى هذا قول أبي تمام :
هو البحر من أي النواحي أتيته فلجته المعروف والجود ساحله
فقوله : هو البحر : تشبيه مراد منه الوصف بالكرم.
ويمكننا أن نعبر عن هذا المعنى بقولنا : قابلت اليوم بحرا ، فنكون قد اخترنا المجاز (الاستعارة) للكشف عن معنى الكرم، فهنا نكون قد شبهنا الكريم بالبحر بجامع العطاء والسخاء في كل منهما ، ثم حذفنا المشبه وهو الكريم وذكرنا المشبه به وهو البحر، ومثل هذا قول المتنبي :
تعرض لي السحاب وقد قفلنا فقلت إليك فإن معي السحابا
فهو هنا شبه الكريم بالسحاب ، ثم حذف المشبه على سبيل الاستعارة.
ولنا أن نعبر عن هذا المعنى (الكرم) بطريق آخر من المجاز، كأن تقول : لفلان علي أياد بيضاء، فالمدلول هنا أن له عليك نعمة وفضلا، واليد هي سبب النعمة فهذا من قبيل المجاز المرسل الذي علاقته السببية.
ولنا أن نسلك طريقا ثالثا غير التشبيه والمجاز وهو الكناية بأن نقول : فلان كثير الرماد، وهزيل الفصيل، ولا يبتاع إلا قصيرة الأجل ، كل هذا كناية عن الكرم ، فظهر لنا مما سبق كيف تنوعت الطرق المؤدية إلى المعنى المشترك ، وهو الكرم ، ولكن لكل من هذه الطرق ميزته وخصائصه ، فيختار البليغ ما يتواءم مع غرضه ، فالتشبيه فيه تجسيد المعنى ، والمجاز فيه المبالغة والادعاء، والكناية فيها الادعاء مع الدليل ، وفيها القدرة على ستر القبيح من المعاني بالجميل من الألفاظ ، وهكذا.