الاثنين، 10 نوفمبر 2008

القصر

القصـــر
القصر لغـة : هو الحبس ، قال تعالى: (( وعندهم قاصرات الطرف))، أي: حابسات الطرف إلا على أزواجهم .
وفي اصطلاح البلاغيين هو: تخصيص أمر بأمر بطريق مخصوص.
وله أركان ثلاثة، هي:1-مقصور، 2-مقصور عليه، (وهما طرفا القصر)، 3- طريق القصر.
أنواع القصر.
للقصر أنواع منها: القصر الحقيقي، أي المطابق للواقع، والقصر الإضافي (الادعائي)، ومن أنواعه: قصر الموصوف على الصفة، وقصر الصفة على الموصوف.
فإذا قلنا مثلاً : إنما الشاعر المتنبي ، نكون قد قصرنا الشاعرية على المتنبي ، فيكون هذا من قصر الصفة(الشاعرية) على الموصوف (المتنبي)، وهو أيضا من القصر الإضافي، أما إذا قلنا : إنما المتنبي شاعر ، فهذا من قصر الموصوف(المتنبي) على الصفة (الشاعرية)، وهو من القصر الادعائي أيضا، ومثال القصر الحقيقي: لا خالق إلا الله.
وهنا قضية مهمة، تبرز من خلال هذا السؤال: أيهما أبلغ قصر الموصوف على الصفة أم قصر الصفة على الموصوف؟
الجواب: لكل من النوعين مكانه وبلاغته ، ففي مواطن المدح يحسن استعمال قصر الصفة على الموصوف، وفي مواطن التمييز والرد والإيضاح يحسن استعمال قصر الموصوف على الصفة.
وإنما قلنا يحسن استعمال قصر الصفة على الموصوف، في المدح لما فيها من المبالغة في اتصاف الموصوف بالصفة ، كقولنا : ما الشاعر إلا المتنبي، فنحن بهذا نقصر الشاعرية كلها على المتنبي، حتى كأن الشعراء غيره لايستحقون هذه الصفة، وهذا بلاشك غاية المدح، وهو غير مطابق للواقع لذا فهو يسمى زيادة على ماسبق قصرا إضافيا ( غير حقيقي) .
أما النوع الثاني وهو قصر الموصوف على الصفة، فقد لا يحسن في مواطن الثناء، إذ قد يشعر بالذم، فإذا قلت مثلاً : (ما المتنبي إلا شاعر ) ، فكأننا بذلك جردنا المتنبي من كل الصفات، وادعينا أنه لايحسن إلا هذه الصفة، فهو ليس بشجاع ولابكريم000 إلخ ،بينما الواقع غيرُ هذا، ومرد ذلك أنه لايتصور موصوف ليس له إلا صفة واحدة، يمكن أن يحصر فيها، ولهذا نستطيع القول إن قصر الموصوف على الصفة لايكون إلا إضافياً.
وبهذا يظهر أن قصر الصفة على الموصوف أعم وأشمل لأنك تجرد الآخرين من الصفة وتجعلها للممدوح، ولامانع أن تكون له صفات أخرى، أما في قصر الموصوف على الصفة ففيه ضد ذلك.

طـرق القصـر .
للقصر طرق أربعة مشهورة ، هي:
الأول : ( إنمـا ) ويكون المقصور عليه معها مؤخراً ، مثل قوله تعالى: (( إنما المؤمنون إخوة )).
الثاني : طريق النفي والاستفهام، أو ( ما و إلا ) ، ويكون المقصور عليه مع (إلا) هو الواقع بعدها.
الثالث : ( العطف بـ( بل ولكن ولا )، والمقصور عليه في هذا الطريق يكون بعد (بل ولكن) وقبل (لا).
الرابع : ( التقديم )، ويتغير موقع المقصور عليه بحسب الجملة.
الفروق بين هذه الطرق:
ما يهمنا هنا هو بيان بعض الفروق الدلالية بين هذه الطرق وخصوصاً الأول والثاني.
(1) (إنمـا) ، تأتي (إنما) للقصر في الأمور التي لايجهلها المخاطب ولاينكرها، أو مايُنّزل هذه المنزلة، فمثال الأول قوله تعالى تعالى : (( إنما المؤمنون إخوة ))، فأخوة المؤمنين غير منكرة، لذا جيء معها بـ(إنما)، ومثال الثاني قوله تعالى: ((إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاماً زكيا))، فهذا جواب جبريل عليه السلام لمريم عليها السلام، والحق أن هذه المعلومات مجهولة لمريم بدليل قولها قبل ذلك: ((إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقياً))، كما أنها أمر عجيب غير معهود، وهي -بلا شك- تجهل أنه ملك مرسل من الله ، خصوصاً أنه تمثل لها بصورة رجل حسن الصورة،بدليل قوله تعالى: (( فتمثل لها بشراً سويا ))، وعلى القاعدة التي ذكرناها، فالمقتضى أن يستخدم الطريق الثاني وهو النفي والاستثناء، لكن لما كانت مريم عليها السلام قد عايشت كثيراً من خوارق العادة، ومن عظيم فضل الله عليها، وغير ذلك من الأمور التي مهدت وهيأت نفسيتها لتلقي أي أمر
غريب ، فلما جاء الرسول على الهيئة المذكورة قال لها :(( إنما أنا رسول ربك ))، لأنها نزلت منزلة من لايُنكر ولا يجهل ولا يستغرب مثل هذا الأمر، لما سبق ذكره ، وأيضاً قد يكون المراد هو إظهار هذا الخبر العجيب الغريب عليها مظهر الخبر العادي المألوف، زيادة في الإيناس ودفع الخوف عنها، لأنه أشعرها بأن هذا الذي تخوفت منه أمر معلوم ممكن.
وقريب من هذا مع الفارق حكايته سبحانه قول أكلة الربا : (( قالوا إنما البيع مثل الربا))، فإنه مما لاشك فيه أن الربا منكر، وفيه أكل واضح لأموال الناس بالباطل، ومع هذا أخرجه أكلة الربا مخرج المعروف المألوف الذي الذي لاينكر، بل زادوا في ذلك حينما ألحقوا البيع بالربا ، فجعلوا الربا المحرم حلالاً وأصلاً ، وحصروا الجدل عندهم في البيع أيلحق بالربا في الحل أم لا، والذي دلنا على هذا هو طريق (إنما) الذي لايستعمل إلا فيما يُعرف ولا ينكر ، فهم بهذا نزلوا الربا وأكله منزلة الكسب الحلال الذي لايُجادل فيه مجادل ولاينكر فيه منكر، فلما كان ذلك كذلك من الإدعاء الباطل وتحريف الكلم عن مواطنه، جاء الرد من الله واضحاً وصريحاً ، فقال سبحانه: (( وأحل الله البيع وحرم الربا ))، فأعيد البيع إلى مكانه فأصبح أصلاً ثم ذكرت حرمة الربا.
(2) النفي والاستثناء(مـا و إلا).
يستخدم هذا الطريق فيما ينكره المخاطب أو يجهله أو ماينزل هذه المنزلة، فهو على عكس طريق(إنما)، ومثاله قوله تعالى: {مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ }المائدة75، فهذا رد على القائلين بألوهية عيسى وأمه، وقد ناسب أن يكون القصر بهذا الطريق لأنه في موطن الرد والإبطال .
أما قوله تعالى: (( ما أنتم إلا بشراً مثلنا )) في رد أصحاب القرية على المرسلين ففيه تنزيل لغير المنكر منزلة المنكر، لأننا نتفق أنهم لاينكرون بشريتهم ولايجهلونها، فهي أمر ماثل للعيان، وكان المقتضى أن يقال: (( إنما أنتم بشر ))، لكن لما كان هؤلاء الأقوام لايستقيم في عقولهم أن يكون الرسول من البشر، بل يظنون أنه لابد أن يكون من جنس آخر كالملائكة، لذا جعلوا الرسل بدعوتهم إلى الله وقيامهم بالرسالة في منزلة من يرفع نفسه فوق منزلة البشرية، وهي عندهم الرسالة التي تؤول إلى الملائكية، فأنكروا عليهم ذلك وجردوهم من تلك الصفة وحصروهم في البشرية .
ومثل هذا قوله تعالى عن نبينا صلى الله عليه وسلم : (( وما محمد إلارسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم )) فمن المحقق أن المؤمنين لاينكرون رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا ينكرون بشريته حتى يوجه لهم هذا الكلام بهذا الأسلوب، لكن لما كان حبهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم عظيماً وتعلقهم به كبيرا ، لم يصدق بعضهم خبر موته لأول وهلة، فكأنه بهذا رفعه فوق منزلة البشرية والرسالة، فقال الله لهم: (( وما محمد إلا رسول )) ، أي ليس بملك ولا بإلـه.

التقييد والإطلاق

التقييـد والإطلاق
لك في كلامك أن تجعله مطلقاً ولك أن تقيده بصفة أوحال أو حرف ولكل تقييد هدفه، وسيكون اهتمامنا هنا بالتقييد لما فيه من اللطائف.
التقييد في أسلوب النهي:
وبالتأمل نجد أن التقييد قد يكون في النفي أو النهي وقد يكون في أسلوب الإثبات، وهذه بعض الشواهد السريعة، نذكرها على سبيل المثال، فالله عز وجل يقول: ((ياأيها الذين آمنوا لاتقربوا الصلاة وأنتم سكارى))، فالقيد هنا الجملة الحالية:(وأنتم سكارى)، والنهي هنا متوجه -بلا شك- إلى القيد لا إلى الفعل، فليس المقصود النهي عن الصلاة، لأنه لايُنهى عن الصلاة فهي عماد الدين، وإنما اختير هذا الفعل(لاتقربوا) دون (لاتصلوا) ونحوه للإشارة إلى أن تلك حالة منافية للصلاة، وقد تسبب لصاحبها الابتعاد عن أفضل عمل في الإسلام، ومن هنا كانت مؤذنة بتغيير شأن الخمر والتنفير منها، لأن المخاطبين يومئذ هم أكمل الناس إيمانا وأعلقهم بالصلاة، فلا يرمقون شيئا يمنعهم من الصلاة إلا بعين الاحتقار، ولهذا كان للقيد هنا أثره العظيم في نفرتهم من تلك البلية، كما أن طريقة تعليق قربان الصلاة التي هي قرة عيون المؤمنين بحالة ترك الخمر، من أنجع الطرق في إزالة عوالق محبة المعصية، لأن محبة الصلاة عنهم أعظم.
وفي قوله تعالى : ((يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة واتقوا الله لعلكم تفلحون [ 130 ]))، نجد أن القيد في النهي هنا هو: ( أضعافاً مضاعفة )، فهل يعني هذا جواز أكل الربا إذا لم يكن أضعافاً مضاعفة ؟
الجواب: لا ، وإنما ذُكر القيد هنا لأن هذا هو غالب شأن الربا، وهذه صورته الأشنع، والقيد إذا جرى على الغالب ليس له مفهوم مخالفة، فلا يُستدل به لجواز ماكان على شاكلة الصورة المذكورة من الربا، وإنما ذكرت هذه الصفة خصوصاً للتنفير والتشنيع لأنها من أعلاها وأشنعها، وسبب ذلك أن مقصود الآية تنفير المؤمنين من الربا، فعلق النهي بأبشع صور ذلك الربا ليكون أكثر شناعة في نفوس المؤمنين.
وتأمل مثل هذا في قوله تعالى : (( ولاتكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصناً )) فقوله تعالى: ( إن أردن تحصناً ) قيد ، فهل له مفهوم ؟ أي هل يفهم من هذا جواز البغاء ومدحه إذا رضين بذلك ؟ الجواب : لا ، بل المقصود بهذا القيد تشنيع هذا العمل وقبحه، وبيان أن إكراه المرأة من قبل وليها على الزنا أمر مستهجن قبيح حتى لو رضيت، فكيف يكون قبحه إن كانت مكرهة مريدة للعفاف، فهنا عُلِّق النهي بأشنع حالاته، وهو القيد المذكور، تفظيعا لتلك الحال وذما لها، لأن ذلك أردع للنفوس وأقوى تأثيرا في العقول.
التقييد بأدوات الشرط:
الفروق بين (إن وإذا) الشرطيتين
ومما يحسن ذكره هنا أدوات الشرط الذي أحد القيود المهمة، لما في تلك الأدوات من اللطائف، ومن أهم أدوات الشرط :إنْ و إذا، فـ(إنْ) مثلاً تذكر مع الكلام المشكوك فيه، ويشعر التقييد بها بعدم جزم المتكلم بما يقول، وما (إذا) فإنها تذكر مع الكلام المجزوم به، وعلى هذا فنخن نخطئ عندما نقول مادحين لعمل من الأعمال : إن كان في هذا العمل من إجادة فهي من فلان، إننا بهذا نذم هذا العمل ذما شديداً، لأننا استعملنا (إنْ)، فكأننا نقول: هو عمل ليس فيه شيء من الإجادة ، لكن إن وجد فيه شيء مما يمدح فهو من فلان.
وحتى يتضح الأمر سأورد بعض الشواهد، ومن ذلك قوله تعالى: ( وإن كان كبر عليك إعراضهم... ) الآية، فجيء في هذا الشرط بحرف ( إنْ ) الذي يكثر وروده في الشرط الذي لا يظن حصوله، للإشارة إلى أن الرسول عليه الصلاة والسلام ليس بمظنة ذلك ولكنه على سبيل الفرض.
وقوله تعالى: { فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه)، يقول ابن عاشور مبينا لطائف هذه الآية:" والمجيء : الحصول والإصابة . وإنما عبر في جانب الحسنة بالمجيء لأن حصولها مرغوب فهي بحيث تترقب كما يترقب الجاثي وعبر في جانب السيئة بالإصابة لأنها تحصل فجأة عن غير رغبة ولا ترقب
وجيء في جانب الحسنة بإذا الشرطية لأن الغالب في ( إذا ) الدلالة على اليقين بوقوع الشرط أو ما يقرب من اليقين كقولك : إذا طلعت الشمس فعلت كذا ولذلك غلب أن يكون فعل الشرط مع ( إذا ) فعلا ماضيا لكون الماضي أقرب إلى اليقين في الحصول من المستقبل كما في الآية فالحسنات أي : النعم كثيرة الحصول تنتابهم متوالية من صحة وخصب ورخاء ورفاهية . وجيء في جانب السيئة بحرف ( إن ) لأن الغالب أن تدل ( إن ) على التردد في وقوع الشرط أو على الشك ولكون الشيء النادر الحصول غير مجزوم بوقوعه ومشكوكا فيه جيء في شرط إصابة السيئة بحرف ( إن ) لندرة وقوع السيئات أي : المكروهات عليهم بالنسبة إلى الحسنات أي : النعم وفي ذلك تعريض بأن نعم الله كانت متكاثرة لديهم وأنهم كانوا معرضين عن الشكر وتعريض بأن إصابتهم بالسيئات نادرة وهم يعدون السيئات من جراء موسى ومن آمن معه فهم في كلتا الحالتين بين كافرين بالنعمة وظالمين لموسى ومن معه ولهذين الاعتبارين عرفت الحسنة تعريف الجنس المعروف في علم المعاني بالعهد الذهني أي : جاءتهم الحسنات لأن هذا الجنس محبوب مألوف كثير الحصول لديهم ونكرت ( سيئة ) لندرة وقوعها عليهم ولأنها شيء غير مألوف حلوله بهم أي : وإن تصبهم آية سيئة ... واعلم أن التفرقة بين تعريف الجنس والتنكير من لطائف الاستعمال البلاغي كما أشرنا إليه في قوله تعالى ( الحمد لله ) في سورة الفاتحة، وأما من جهة مفاد اللفظ فالمعرف بلام الجنس والنكرة سواء فلا تظن أن اللام للعهد لحسنة معهودة ووقوع المعرف بلام الجنس والمنكر في سياق الشرط في هذه الآية يعم كل حسنة وكل سيئة".






الحذف والذِكر

الحذف والذكر :
نحتاج في كلامنا، ونلحظ في كلام غيرنا ألفاظا محذوفة، وأخرى مكررة مذكورة، وهذا يدفعنا إلى التساؤل عن سر الحذف والذكر مع أنهما منتناقضان؟
وجوابا على ذلك لابد أن ندرك أن المقام والموقف والحالة التي عليها المتكلم أو المخاطب أو نوع الكلام يؤثر في ذلك كثيرا، وعلى فليست البلاغة هي في مطلق الإيجاز، ولا مطلق الإطناب(الذكر)، بل البلاغة استخدام كل نوع في موقعه الذي يتطلبه.
أولاً : الحذف .
يعد الحذف من الأساليب الدقيقة جداً في اللغة العربية حتى سماه ابن جني ((شجاعة العربية )) وقد لا تظهر دلالة الحذف في اللغات الأخرىكما تظهر في العربية، وبالتتبع وجد أن المحذوفات في اللغة العربية كثيرة ، ولكننا يمكن أن نجملها فيما يأتي :
1- حذف الحرف 0
2- حذف الكلمة0
3- حذف الجملة0

1- حذف الحرف .
يمكننا أن نمثل لحذف الحرف بقوله تعالى عن موسى عليه السلام: {قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصاً }الكهف64 ، فنجد الياء محذوفة في (نبغ) دون مسوغ نحوي ولا صرفي ( أي لم تسبق بجازم أو غيره ) فما السر وراء حذفها إذا ؟
يقول بعض المفسرين سبب الحذف هو التخفيف، لكننا يمكن أن نقول زيادة على ذلك أن الحذف هنا مصور للواقع ، فموسى عليه الصلاة والسلام كان متشوقاً للعلامة التي يعرف بها مكان الخضر وهي فقدان الحوت ، فلما سأل غلامة عن السمكة التي أعدها لغدائه ذكر له أنها خرجت من المِكْتَل ودخلت في الماء ، ففرح عليه بذلك فقام مسرعاً للمكان الذي فقدت فيه السمكة، ومعلوم أن المستعجل ينسى- غالبا- بعض مايريد، وأحياناً يسقط منه بعض متاعه ، فسقوط الحرف هنا يصور سقوط المتاع من المستعجل0
وقال تعالى في مشهد آخر: (( فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا ))
فنجد هنا سقوط التاء من(اسطاعوا) الأولى، دون الثانية(استطاعوا) وذلك لأن ظهور الجدار وتسوره أسهل من نقبه، فجيء مع الأسهل بالكلمة ذات الحروف الأقل (اسطاعوا )، وجيء مع الأصعب بالكلمات ذات الحروف الأكثر، تمشياً مع القاعدة القائلة " زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى ".

2- حذف الكلمة.
الكلمات المحذوفة كثيرة في اللغة، فقد يحذف المبتدأ وقد يحذف الخبر وقد يحذف المفعول وقد تحذف الصفة، وقد يحذف الحال، وقد يحذف غير ذلك.
ومن أمثلة حذف المبتدأ قول الله تعالى: (( وامرأته قائمة فصكت وجهها وقالت عجوز
عقيم ))، فكلمة (عجوز) خبر المبتدأ المحذوف، وتقديره: أنا عجوز عقيم، لكن طُوي المبتدأ لضيق المقام -بسبب الفرح- عن إكثار الكلام ، فزوجة إبراهيم عليه السلام ماكانت تتوقع أبداً البشارة بالولد ، فلما سمعت ذلك من الضيوف الذين قدموا على إبراهيم ( الملائكة )، ضربت بيديها على وجهها إظهاراً للاستغراب وإمعانا في الاندهاش، فقالت: ( عجوز )، فطوت المبتدأ لأنها أرادت أن تذكر لهم سبب استغرابها ولاحاجة لإيراد المبتدأ لوجودها أمامهم، فقالت مباشرة: عجوز، دون (أنا) 0
ومن حذف الصفة ماجاء في قوله تعالى عن نعيم الجنة : {مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ }ص51، فنجد هنا أن الفاكهة وصفت بـ(كثيرة) بينما الشراب حذفت صفته ، ولست أرى السر هو دلالة ماقبلها عليها، بل السر في هذا -والله أعلم- هو بيان عظيم نعيم أهل الجنة، وذلك أنه لما كان التلذذ بأنواع الفاكهة شيئاً معلوماً في الأذهان ومحسوسا في الأذواق، ذكر الله لهم الصفة الدالة على كثرة تلك الفواكه سواءً من نوعها أم كميتها ، أما الشراب فمعلوم أن الآكل يتفكه بأنواع من الفواكه، ولكنه يكتفي –غالبا- بشراب واحد، لذا لم يُحتج لوصفه بالكثرة، إضافة إلى أن الشراب إذا اطلق قصد به الخمر، وعلى هذا فهو نوع واحد لذلك لم يوصف.
ومن لطائف هذه الآية ، الاقتصار على دعاء الفاكهة والشراب، للإيذان بأن مطاعمهم لمحض التفكه والتلذذ دون التغذي
ومن شواهد حذف الحال قوله تعالى {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ }البقرة127، فنجد هنا حالاً محذوفة قبل قوله: (ربنا تقبل منا) تقديرها : قائلين أو يقولان ، لكن ما جاء في الآية من الحذف هو الإعجاز؛ لأن الذي في الآية حياة والذي في تقدير المحذوف حكاية ، وفرق كبير بين الحياة والحكاية، وبيان ذلك أنه لما طُوي الحال تجسد المشهد أمام المتلقي، حتى لكأننا نسمع أصواتهما وهما يرددان الدعاء ، ولكن لو ذكر المحذوف ، فقيل (يقولان) أو (قائلين) لكان ذلك نقل لخبرهما.

3- حذف الجملة:
أحيانا يشتمل الكلام على جمل كثيرة يمكن الاستغناء عنها، لعدم تعلق الغرض بذكرها، ولوفاء المعنى دونها، ومثل ذلك من الجمل حذفه هو البلاغة، تأمل قول الله تعالى في قصة يوسف عليه السلام {وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَاْ أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ * يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَّعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ}يوسف45،46 . فستجد حذفاً لجمل عدة، بين كلمتي:(فأرسلون) و(يوسف) ويمكن أن نقدر تلك الجمل بعد كلمة(فأرسلون) على النحو الآتي: فأرسلوه ، فدخل على يوسف عليه السلام في السجن، فسأله قائلاً: ( يوسف أيها الصديق ) ، فنجد ثلاث جمل قد حذفت، والسر في ذلك أنه لاحاجة لهذه الأحداث؛ لأنه لاقيمة لها في القصة، وأيضا للتدليل على سرعة انتقال هذا الرجل من القصر إلى السجن، ولا عجب في ذلك فقد تذكر وصية يوسف عليه السلام له وشأنه في تأويل الرؤيا فبادر بسرعة للذهاب إلى يوسف، وقص الرؤيا عليه0
ومن لطائف هذه الحادثة أن يوسف عليه السلام لم يحجب ماعنده من الخير عن السائلين المحتاجين لعلمه وعونه، كما أنه لم يعنف ولم يعاتب هذا الرجل الذي نسي وصيته من قبل، وبقي بسبب ذلك في السجن بضع سنين، ولكن لاعجب فهذه أخلاق الأنبياء.


ثانياً: الذكر.
الذكر هو الأصل ، والأصل أنه لايسأل عن الأصل، لكنا نسأل هنا عن الذكر إذا كان الكلام -في ظننا- يستغنى عنه، مثل الصور الآتية :
1 – الزيادة في جواب السؤال .
قال تعالى: (( وماتلك بيمينك ياموسى )) مقتضى الكلام أن يقول في جوابه: عصا، لكن موسى عليه السلام أجاب بأكثر من هذا فقال: (( هي عصاي أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى )) فزاد ما يأتي: (هي) و(ياء المتكلم) في عصاي، ومابعد ذلك من الجمل، فكان قدر مازاد من الكلمات اثنتي عشرة كلمة، وذكر قضايا تتعلق باستخدامات العصا، وهو لم يُسأل عن نفعها أوسبب اقتنائها(
[1]).
وسر كل ذلك – والله أعلم- أن موسى عليه السلام لما كان يناجي رب العالمين، وهذه منزلة عظمى، ومنحة كبرى، حاول عليه السلام أن يطيل في الكلام إلى أقصى حد ممكن، وهذا أمر معلوم عند الناس ، فالإنسان يحب التطويل في الكلام مع من يأنس إليه أو يرتاح معه، يقول ابن عاشور: " ومن لطائف معنى الآية ما أشار إليه بعض الأدباء من أن موسى عليه السلام أطنب في جوابه بزيادة على ما في السؤال لأن المقام مقام تشريف ينبغي فيه طول الحديث".
2 –المسلمات والبديهيات:
وهي التي لا تتوقف معرفتها لو حذفت على نظر أو كسب بل هي كالضروي ، وقيل هي ما يفرض نفسه فرضاً على العقل ولا يترك مجالاً للشك(
[2]) .
قال الله تعالى: (( فخر عليهم السقف من فوقهم ))، ومعلوم أن السقف لايسقط إلا من فوق فما فائدة ذكر الفوقية هنا ؟.
الجواب، ذكرت الفوقية هنا للتدليل على شدة ما أصابهم من العذاب والهلاك؛ لأن ذكر الفوقية يقضي أن السقف وقع على رؤوسهم دون حائل ، ولو لم تذكر الفوقية فقيل:(( فخر عليهم السقف ) لربما دل ذلك على أنه لم يصلهم بسب بعدهم عنه، أو أن هناك دعامات ردت هذا السقف عنهم،كذلك في ذكر الفوقية دليل على أن هلاكهم كان شاملا،ولو لم تذكر فربما يفهم منه أنه سقط من جانب على بعض منهم دون بعض، كما أن وجود (من) الجارة قبل(فوقهم)، أشعرت بقرب هذا السقف وهذا أشد في تمكنه منهم، وعدم قدرتهم على الفكاك منه، بينما لما كان الطير بعيدا في السماء قال سبحانة: (أو يروا إلى الطير فوقهم) بدون (من).
ومن هذا قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ }الحج46، فقوله تعالى: (( التي في الصدور ))أمر بديهي فما سر ذكره؟
الجواب ، أنه سبحانه لما نسب العمى إلى غير موطنه المعروف وهو العين كان لابد من تأكيد النسبة لهذا الموطن، ونفي التوهم الذي قد يحدث بسبب غرابة النسبة، فعلمنا بذكر (( التي في الصدور )) أن النسبة مقصودة للقلب لا للعين، فأدركنا بهذا أن القلب يعمى كما أن العين تعمى، يقول الفراء والزجاج : إن قوله (التي في الصدور) من التوكيد الذي تزيده العرب في الكلام كقوله : { عشرة كاملة } و { يقولون بأفواههم } و { يطير بجناحيه).
3- التكرار اللفظي والمعنوي.
وخير شاهد لذلك هو التوكيد اللفظي والمعنوي، مثل قولك: الصدق الصدق، وقولك: حضر الأمير نفسه، ومن هذا القبيل قوله تعالى: {كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكّاً دَكّاً* وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً }الفجر21،22، فنلحظ هنا كيف تكررت كلمة (دكا) ، وقد أفاد ذلك تكرر الدك - الذي هو: حط المرتفع بالبسط-
وبالتالي شدة التحطم، والمعنى : أنها دكت مرة بعد أخرى، حتى انبسطت وذهب ارتفاعها، وفي توالي الكلمتين دون فاصل إشعار بأن الدك كان متتابعا حتى انكسر وذهب كل ما على وجهها من جبال وأبنية وقصور.
ومثل ذلك: (صفا صفا) في دلالة التكرر المشعر بالكثرة، والتوالي المشعر بالانتظام والدقة.
4- التفصيل والتقسيم.
كقوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِن مَّاء فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }النور45.
5- الخاص بعد العام، والعكس.
كقوله تعالى: {حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ }البقرة238، فنجد هنا كيف ذكرت الصلاة الوسطى بعد ذكر الصلوات وهي داخلة فيهن، فما سر إفرادها بعدهن؟
جواب ذلك، أن هذا من قبيل عطف البعض على الكل للاهتمام بالبعض وهو هنا الصلاة الوسطى.

تدريبات
عين المحذوف والمذكور فيما يأتي، وبين نوعه، واكشف سره البلاغي؟
· قال تعالى في شأن بني إسرائيل:{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ}[61 البقرة].
· قال تعالى (لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما*إِلَّا قِيلاً سَلَاماً سَلَاماً }الواقعة26
· قال تعالى {وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَّمّاً }الفجر19
· قال تعالى{تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ }القدر4





([1])ومن اللطائف أن هناك من أفرد فوائد العصا بمؤلف ، وقد عدوا من ذلك قول بعض العرب : "عصاي أركزها لصلاتي، وأعدها لعداتي، وأسوق بها دابتي، وأقوى بها على سفري، وأعتمد بها في مشيتي ليتسع خطوي، وأثب بها النهر، وتؤمنني العثر، وألقي عليها كسائي فتقيني الحر، وتدفيني من القر، وتدني إلي ما بعد مني، وهي تحمل سفرتي وعلاقة إداوتي، أستعصي بها عند الضراب، وأقرع بها الأبواب، وأقي بها عقور الكلاب، وتنوب عن الرمح في الطعان، وعن السيف عند منازلة الأقران، ورثتها عن أبي وأورثها بعدي بني" انظر فتح القدير 3/507.
([2]) - انظر في هذا البدهيات في القرآن الكريم دراسة نظرية، للدكتور . فهد الرومي ص 10.

التنكير والتعريف

التنكير والتعريف
من الأمور المؤثرة في دلالة الاسم(التنكير والتعريف)، وسنبين شيئا من تلك الدلالة .
أولا: التنـكير.
وقد بدأنا بالتنكير ؛ لأنه الأصل ، يذكر ابن جني أن التنكير أسبق رُتْبة من التعريف، ولهذا لما كان التعريف طارئا على التنكير احتاج إلى زيادة فيه هي علامة التعريف، وقد يكون من دلالة سبق التنكير أنه أوسع دلالة من التعريف وتذكر معه دائماً إرادة الشيوع، وإذا تكررت النكرة دلت على معنى جديد على عكس المعرفة.
قال تعالى: (( فإن مع العسر يسرا * إن مع العسر يسرا ))
قال صلى الله عليه وسلم : ( لن يغلب عُسر يُسرين ) فكيف جاء هذا الفهم ؟
ذُكر ابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهما قولهما : لن يغلب عسر يسرين وقدروي مرفوعا أنه خرج صلى الله عليه وسلم ذات يوم وهو يضحك ويقول : لن يغلب عسر يسرين، ولنا أن نتساءل عن معنى ذلك، خصوصا أن العسر جاء معرفا(العسر) واليسر منكرا(يسرا)؟
الجواب : لأن العسر معرف قصد به عسر معهود، أو أريد جنس العسر، فتكراره لايعني التعدد، فالعسر في الحقيقة واحد ، وأما اليسر فمنكر متناول لبعض الجنس، فإذا كان الكلام الثاني مستأنفا غير مكرر، فقد تناول بعضا غير البعض الأول بغير إِشكال ، كما يقول الزمخشري، ويكون معنى هذا التنكير التفخيم ،كأنه قيل : إن مع العسر يسرا عظيما.
وفي حمل الآية على هذا المعنى عمل على الظاهر، وإظهار لقوة الرجاء، وأن موعد الله لا يحمل إلا على أوفى ما يحتمله اللفظ وأبلغه .

وتأمل سعة مدلول التنكير في لفظة(حياة) في قوله تعالى: ( ولتجدنهم أحرص الناس على حياة)، وقوله تعالى: (( ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب ))، فكلمة (حياة) جاءت منكرة ، لتشمل كل صور الحياة، وذلك أن إقامة القصاص من المعتدي فيها حياة للمجتمع كله.
وهذا الذي ذكرته غيض من فيض وجزء من كل، توخيت فيه السهولة والقرب، ولكن أود أن تكون لك دربة في تلقي كلام المختصين البارعين في بيان جماليات الكلام، من أمثال شيخ البلاغيين عبد القاهر الجرجاني الذي يذكر أن مما يلفت النظر، ويسترعي الانتباه التنكير في قولُه تعالى : ( وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ )، إِذا أنتَ راجعتَ نفسَكَ وأذكيْتَ حِسَّك وجدتَ لهذا التنكيرِ وأنْ قِيلَ " على حياة " ولم يَقُلْ (على الحياةِ) حُسناً وروعةً ولطفَ موقعٍ لا يُقَادَرُ قَدْرُه ، وتجدُك تَعْدَم ذلك مع التعريفِ وتخرجُ عن الأريحيَّة والأُنْسِ إِلى خلافِهما ؛ والسَّبَبُ في ذلك أنَّ المعنى على الازديادِ منَ الحياةِ لا الحياةِ من أصلِها، وذلك لا يحرص عليه إِلاّ الحيُّ ، فأمَّا العادمُ للحياة فلا يَصِحُ منه الحرصُ على الحياةِ ولا على غيرها، وإِذا كانَ كذلكَ صارَ كأنه قيلَ : ولتجدنَّهم أحرصَ الناسِ ولو عاشوا ما عاشوا على أن يزدادوا إِلى حياتِهم في ماضي الوقت وراهِنِه حياةً في الذي يُسْتَقْبَلُ، فكما أنَّك لا تقولُ هاهنا: أن يزدادوا إِلى حياتِهم الحياةَ بالتعريفِ، وإِنما تقولُ: حياةً، إِذْ كانَ التعريفُ يصلحُ حيثُ تُرادُ الحياةُ على الإطلاق كقولنا : كلُّ أحدٍ يحبُّ الحياةَ ويكرهُ الموتَ ، كذلك الحكمُ في الآية... .
وشيبهٌ بتنكير " الحياةِ " في هذه الآية تنكيرُها في قولِه عزَّ وجل: ( وَلَكُم في القِصَاصِ حَيَاةٌ ) ، وذلكَ أنَ السببَ في حُسنِ التنكيرِ وأنْ لم يحسُنِ التعريف أنْ ليسَ المعنى على الحياةِ نفسِها، ولكنْ على أنه لمَّا كانَ الإِنسانُ إِذا عَلِم أنه إِذا قَتَلَ قُتِلَ ارتدعَ بذلك عن القَتْلِ فَسَلِمَ صاحبُه، صارتْ حياةُ هذا المَهْمومِ بقتلِه في مُستأْنَفِ الوقتِ مستفادَةً بالقِصَاصِ وصارَ كأنَّه قد حَيِيَ في باقي عمرِه به أي بالقِصاص.
وإِذا كان المعنى على حياةٍ في بعضِ أوقاته، وجَبَ التنكيرُ وامتنعَ التعريفُ، من حيثُ كان التعريفُ يقتضي أن تكونَ الحياةُ قد كانَتْ بالقصاصِ من أصلِها وأن يكونَ القصاصُ قد كان سبباً في كونِها في كافَّة الأوقاتِ، وذلك خلافُ المعنى وغيرُ ما هو المقصودُ ويُبيِّنُ ذلك أنك تقولُ : لك في هذا غنًى فتنكِّرُ إِذا أردتَ أن تجعَل ذَلك من بعضِ ما يُستغَنى به. فإِنْ قلتَ : لك في الغنى كان الظاهرُ أنك جعلتَ غِناهُ به.
وأمرٌ آخرُ وهو أنه لا يكونُ ارتداعٌ حتى يكونَ همٌّ وإِرادةٌ ، ليس بواجبٍ أن لا يكونَ إِنسانٌ في الدنيا إِلاّ وله عدوٌّ يَهُمُّ بقتله ثم يردَعُه خوفُ القِصاصِ ، وإِذا لم يَجِبْ ذلك فمَن لم يَهُمَّ إِنسانٌ بقتلِه فكُفيَ ذلك الهمَّ لخوفِ القصاصِ ليس هو ممَّن حَيِيَ بالقصاص . وإِذا دخلَ الخصوصُ فقد وجبَ أن يقالَ " حياةٌ " ولا يقالَ " الحياةُ " كما وجبَ أن يقالَ " شفاءٌ"، ولا يقالُ " الشفاءُ " في قولِه تعالى : ( يَخْرُجُ من بُطُونِها شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلوانُهُ فِيْهِ شِفاءٌ للنَّاسِ ) حيثُ لم يكن شفاءً للجميع.
واعلمْ أنه لا يتصوَّر أن يكونَ الذي هَمَّ بالقتلِ فلم يقتلْ خوفَ القصاصِ داخلاً في الجملة وأن يكونَ القصاصُ أفادَه حياةً كما أفادَ المقصودَ قتلُه . وذلك أنَّ هذه الحياةَ إِنَّما هي لمن كان يُقتلُ لولا القصاصُ وذلك محالٌ في صِفَةِ القاصِدِ للقتلِ . فإِنما يصحُّ في وصفِه ما هو كالضِّدِّ لهذا وهو أن يقالَ إِنه كان لا يُخافُ عليه القتلُ لولا القصاصُ وإِذا كانَ هذا كذلكَ كان وجهاً ثالثاً من وجوبِ التَّنكير"
آمل أن تقرأ هذا التحليل مرة بعد أخرى حتى تفيد منه ، ولاتستعجل الثمرة، وتنفر من عدم إدراك المراد بسرعة.
ولو وقفنا مع قوله تعالى :﴿يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم﴾ (21)، لوجدنا أن التنكير في (الرحمة والرضوان والجنات) للتعظيم، والمعنى: أنها فوق وصف الواصفين وتصور المتصورين، وتأمل كيف جاء كل ذلك في سياق البشارة من الله سبحانه!.

وتأمل روعة التنكير في قوله تعالى:{ وإنا على ذهاب به لقادرون }، فكلمة (ذهاب) نكرة، والمعنى: أي كما قدرنا على إنزال الماء فنحن قادرون على أن نذهب به بوجه من الوجوه، ولهذا التنكير في كلمة (ذهاب) حسن موقع لا يخفى، وفي هذا تهديد شديد لما يدل عليه من قدرته سبحانه على إذهابه وتغويره حتى يهلك الناس بالعطش وتهلك مواشيهم.
ومن شواهد التنكير قوله تعالى:﴿سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى﴾ .
من لطائف هذه الآية أن الإسراء لا يكون إلا بالليل فما معنى ذكر الليل ولم كان نكرة (ليلا) ؟ الجواب: ورد " ليلا " بلفظ التنكير، لدلالة تقليل مدة الإسراء وأنه أسرى به في بعض الليل من مكة إلى الشام مسيرة أربعين ليلة؛ وذلك أن التنكير فيه قد دل على معنى البعضية ، ويشهد لذلك قراءة عبد الله وحذيفة : من الليل أي بعض الليل، كقوله تعالى: " ومن الليل فتهجد به نافلة " الإسراء : 79 ، يعني الأمر بالقيام في بعض الليل.
وتعال الآن إلى هذه الموازنة اللطيفة بين التعريف والتنكير في قوله تعالى عن يحي عليه السلام : (( وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حياً )) ، وعن عيسى عليه السلام قوله تعالى (( والسلام عليّ يوم ولدت ويوم أموت ويوم أُبعث حياً )) ، فقد جاء السلام منكراً مع يحيى لأنه من الله ففيه دعاء ووعد من الله ليحي بالسلام ، وهذا يناسب أن يكون السلام منكراً يشمل كل نوع من السلامة ، ولاشك أن الله قادر على ذلك.
أما عيسى فالسلام منه على نفسه وهو بشر له حدود معينة فلابد أن يكون سلامه مقصوراً ومحدوداً وهذا يناسب التعريف .

ثانيا: التعريف.
لك في تعريف الكلمة طرق كثيرة تختلف حسب مقتضيات الكلام، فمن ذلك:
1- التعريف بالضمير.
وهو يختلف حسب نوعه من متكلم إلى مخاطب إلى غائب ، ويُلجأ إليه في مقامات الاختصار والإيجاز والفخر، وأحيانا يكون أكثر تعريفا، مثل أن يكون المتحدث حاضرا ويتحدث عن نفسه، فلو ذكر اسمه العَلَم لربما أوهم غير من يتكلم، لكن الأولى هنا التعريف بالضمير، يبرز ذلك عند الفخر مثل قول النبي r: "أنا سيد ولد آدم يوم القيامة وأول من ينشق عنه القبر وأول شافع وأول مشفع" رواه مسلم.
2- التعريف بالموصول .
وهو نوعان رئيسيان :
أ – عام مشترك ، وهو (مَنْ وما).
ب- خاص ، وهو (الذي) وأخواتها .
ويُلجأ إلى التعريف به ( أي إلى الموصول ) لبيان قوة اتصاف المعرَّف به بما وقع في حيز الصفة، ولإمكان إجراء الأوصاف من مدح وقدح على المراد تعريفه ، قال تعالى ((وراودته التي هو في بيتها)) ، فالتعريف بالموصول (التي) دون الاسم(زليخا) ، ودون الإضافة ( امرأة العزيز ) لما في التعريف بالصلة من إمكانية إجراء الأوصاف الذامة لهذه المرأة ، فعرفنا بالتعريف بالموصول أن المراوَد وهو يوسف كان في بيت المرأة، وأن موضع المراودة هو بيتها ، والمفترض في مثلها وهي السيدة وهو المأمور عندها أن لاترغب في مثل ذلك، وهكذا نلحظ كيف أسهم التعريف بالموصول هنا في الإيحاء بكل هذه المعاني، ولو جاء التعريف بالعلمية أو الإضافة لما عرفنا كل ذلك.
3- التعريف بالإشارة.
والإشارة تكون بـ(هذا وأخواتها) ، فالهاء للتنبيه وذا للإشارة، ولكأن تقول:(ذاك) و (ذلك) ، ففي الإشارة إلى القريب تقول (ذاك) وللبعيد تقول (ذلك) لأن اللام للبعد ، وتذكر (ذلك) في التعريف لقصد تعظيم المكانة ورفعة المنزلة، وذلك كقوله تعالى:"{ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ }البقرة2، وأيضا نجد التعريف بالإشارة يكثر لقصد التحديد كقوله تعالى :(( ياأيها الذين آمنوا إنما المشركين نَجَسْ فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا ))، فالتعريف بـ(هذا) لتحديد العام المقصود وليس هناك شيء أكثر تحديداً من اسم الإشارة.
4-التعريف بالعَلمية.
ويحسن التعريف بالعلمية (الاسم)، عند غياب شخص المعرَّف، وأما عند حضوره فالضمير والإشارة أولى في أكثر الأحوال، وتأمل معي هذه الحادثة وانظر إلى أثر نوع التعريف فيها، يقول جابر رضي الله عنه: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في دَين كان على أبي فدققت الباب فقال: ( من ذا )؟ فقلت: أنا، فقال: ( أنا أنا )! كأنه كرهها"رواه مسلم .
فنلحظ كيف أن النبي rكره تعريف جابر نفسه بالضمير(أنا) ، لأن هذه اللفظة ( أنا ) لا تعرف بالمستأذن، كما يقول النووي، وكان التعريف بالعلم هنا أولى، يقول العيني:
"قوله (أنا) لا يتضمن الجواب ولا يفيد العلم بما استعلمه، وكان حق الجواب أن يقول: (أنا جابر) ليقع تعريف الاسم الذي وقعت المسألة عنه، وقد أخرج المصنف في الأدب المفرد وصححه الحاكم من حديث بريدة أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى المسجد وأبو موسى يقرأ قال: فجئت فقال: من هذا؟ قلت: أنا بريدة "، وهكذا يتضح أن التعريف بـ(أنا) مع غياب المتكلم بها، بسبب حاجز كباب ونحوه، أو بعد مسافة كحالة الهواتف في زماننا، لايحسن لأنه لايؤدي المراد من التعريف، ويكون الأولى هنا هو التعريف بالعلم لأنه المميز للمعرَّف أكمل تمييز.
وقد يراد من التعريف بالعلمية –أحياناً- التعظيم والمدح كقوله تعالى عن نبيه محمدr : {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ ...}الفتح29، فالمقام هنا للمدح والتمييز، وقد يكون المراد عكس ذلك، كما نقول : الكذاب هو مسيلمة، فذكر العلم هنا فيه مزيد ذم، لارتباط العلم بما يذم.
ولابن عاشور كلام لطيف عن تعريف النبي r أنقله هنا للفائدة، يقول :"نداء النبي عليه الصلاة والسلام بوصف النبوة دون اسمه العلم تشريف له بفضل هذا الوصف، ليربأ بمقامه عن أن يخاطب بمثل ما يخاطب به غيره، ولذلك لم يُناد في القرآن بغير ( يا أيها النبي ) أو ( يا أيها الرسول)، بخلاف الإخبار عنه، فقد يجيء بهذا الوصف كقوله: ( يوم لا يخزي الله النبي ) ( وقال الرسول يا رب ) ( قل الأنفال لله والرسول ) ( النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم ) ، ويجيء باسمه العلم كقوله ( ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ( وقد يتعين إجراء العلم ليوصف بعده بالرسالة كقوله تعالى: ( محمد رسول الله ) وقوله (وما محمد إلا رسول ) ، وتلك مقامات يقصد فيها تعليم الناس، بأن صاحب ذلك الاسم هو رسول الله، أو تلقين لهم بأن يسموه بذلك ويدعوه به، فإن علم أسمائه من الإيمان لئلا يلتبس بغيره، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لي خمسة أسماء : أنا محمد وأنا أحمد وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب " تعليما للأمة ".
5-التعريف بأل.
وهي أنواع ومن أهمها (أل) التي للعهد والتي للجنس ، وتذكر الأولى إذا كان قد سبق الكلام عن المعرف، وهو حاضر في الذهن ، لذا قالوا عنها : إنها للعهد الذكري أو الذهني ، أما الثانية فتذكر لقصد التعميم والشمول والاستغراق.
مثال الأولى: قولك لصاحبك: أعطني الكتاب، وقد سبق بينكما حديث أو اهتمام أو اشتغال بكتاب معين ، ومايزال شأن هذا الكتاب ماثلا في الذهن، عندها لن تتردد في معرفة مراد صاحبك، فتناوله كتابا محددا رغم كثرة الكتب، فأفاد التعريف بـ(أل) هنا تحديد ذلك الكتاب دون غيره.
ومن شواهد هذه اللام قوله تعالى: )هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات( (7)، فالكتاب هنا هو القرآن، واللام فيه للعهد.
وقوله تعالى:{وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ }الأعراف154، فالتعريف في الألواح للعهد الذهني والذكري، لأنه سبق ذكرها من قبل.


وأما (أل) التي للجنس ، فإنها تُذكر إذا أريد الاستغراق الكامل لأفراد الجنس، مثل قوله تعالى:(( والعصر إن الإنسان لفي خسر ))، فـ(الإنسان) هنا معرف بـ(أل) ، والمقصود استغراق الجنس الإنساني كله، وهذا أقوى من لو قيل بالجمع: ( إن الناس لفي خسر )، وذلك لأن الجمع قد يراد منه الأكثر أو الأغلب ، أو نوع معين أو جهة خاصة، فيخرج من بسبب ذلك بعض الأفراد، وأما (أل) التي للجنس فلا يخرج منها شيء، إضافة إلى ما في بقاء اللفظ معها مفردا من الإشعار بالمسئولية الفردية، فمن يسمع الآية السابقة، يشعر كأنه المخاطب الوحيد بها، بسبب الإفراد فيكون أكثر تحسسا للتبعة والمسئولية، وأما مع الجمع فقد تذهب تلك الحساسية لعدم توجه الخطاب إلى المتلقي لكونه فردا محددا مقصودا، ولهذا نجد الجمع نفسه إذا أريد له الشيوع الكامل تجيء معه (أل) التي للجنس، مثل قوله تعالى : {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ }الناس1
ومن الشواهد التي يختلف فيها المعنى باختلاف نوع اللام ما يأتي: قال تعالى:)وإذ استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا ( (60)
فـ(الحجر) هنا يحتمل أن يكون حجرا معينا فتكون اللام للعهد، ويحتمل أن لايكون معينا، فتكون للجنس وهو أظهر في المعجزة وأقوى للحجة.





تدريبات

بين سر التنكير والتعريف وأداته فيما يأتي.
1. )ُيجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ (المائدة54
2. "أؤلئك على هدى من ربهم وأؤلئك المفلحون "
3. (اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا }
4. {الَرَ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ }الحجر1
5. {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَاءُ الذُّكُورَ }الشورى49
6. {طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُّبِينٍ }النمل1
7. {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ...}البقرة185
8. ( ولئن مستهم نفحة من عذاب ربك )



الأحد، 9 نوفمبر 2008

التقديم والتأخير

التقديم والتأخير
سبق أن ذكرنا أن تريب الكلام المكتوب أو المنطوق هو صورة لترتيب المعاني في النفس ، ولهذا نجد الأساليب تختلف في المعنى الواحد . فقد يقول قائل :
أنا ما كتبت الرسالة ، ويقول آخر : ما أنا كتبت الرسالة ، ويقول ثالث : ما كتبت الرسالة . وكل منهم على حق ، وسنعرف تفصيل ذلك إن شاء الله .
لنتأمل الآن قوله تعالى : (( إذ قال إبراهيم ربي الذي يحي ويميت ، قال أنا أحي وأميت ))،لم يقل إبراهيم عليه السلام: يحي ويميت ربي ، لأن الفرق كبير ، فتقديم ( ربي ) على ( يحي ) يفيد الحصر، أي: لا محي ولا مميت إلا الله ، ولو قيل : يحي ويميت ربي ، لكان المراد نسبة الإحياء والإماتة إلى الله على سبيل التوكيد، لا الحصر، والمقام هنا مقام جدال، وهو مما يقتضي الحصر، ولهذه المنازلة رد المعانِد بالأسلوب نفسه فقال :أنا أحيي و أميت ، لأن موضوع النزاع هو: مَن المتفرد بالإحياء والإماتة؟ أما الفعل ذاته(وهو الإحياء والإماته) فهو واقع والكل يقر به ، ولا أحد ينكر ذلك لكن النزاع في المدبر لهما من هو ؟
وإذا كان في هذه الآية قد قدم الفاعل فإننا نجد في مواطن أخرى تقديم الفعل ، كقوله تعالى :
(( أألقى عليه الذكر من بيننا ))، فتقدم الفعل(ألقي) وولي الهمزة؛ لأن موطن النزاع هو إنزال القرآن ، المعبر عنه بالإلقاء ، ولو قدم نائب الفاعل ( الذكر ) لقيل : أالذكر ألقي عليه؟ ولكن ليس هذا موطنه ولا مجاله .
أقسام التقديم
وتقديم بعض الكلام على بعض له قسمان كبيران:
الأول : ما يتعلق بالإسناد والتركيب. والثاني: ماليس كذلك
فأما الأول وهو–ما يخص الإسناد- فهو على قسمين :
1- ما كان عل نية التأخير : كتقديم المفعول على فعله ، كقولك : كتاباً اشتريته ، فنحن هنا نجد كلمة (كتاباً) مقدمة على الفعل(اشتريت) وهي مفعول به ولم يتغير حكمها، ومعلوم أن موقع المفعول الأصلي هو بعد الفعل والفاعل.
ومن ذلك تقديم متعلقات الفعل عليه مثل قوله صلى الله عليه وسلم لما رأى شيخاً يهادى بين ابنيه: ( ما بال هذا ) قالوا : نذر أن يمشي ، قال صلى الله عليه وسلم : ( إن الله عن تعذيب هذا نفسه لغني ، وأمره أن يركب ) رواه البخاري.
والتقدير إن الله لغني عن تعذيب هذا نفسه ، فقدم النبي صلى الله عليه وسلم تعذيب الرجل لنفسه، على الإخبار بغنى الله عن ذلك، لأنه الحدث المهم الذي يريد إنكاره صلى الله عليه وسلم عليه .

2- تقديم لا على نية التأخير وهو الذي تنتقل فيه الكلمة من حكم إلى حكم .
كقولك: (محمد أخوك) ، ولك أن تقول: (أخوك أحمد) ، فهنا تغير حكم كل الكلمات، فالخبر أصبح مبتدأ والمبتدأ أصبح خبراً .
ومن أمثلة النوع الأول في القرآن قوله تعالى: (( إياك نعبد وإياك نستعين )) .
فـ(إياك) في الموطنين مفعول مقدم، وليس السر كما يقال هو رعاية الفاصلة ، (التي هي نهاية الآيات )، بل المقصود من التقديم هو الاختصاص فيكون المعنى : نخصك بالعبادة ياربنا ونخصك بالاستعانة ، وكقوله تعالى : (( ثم الجحيم صلوه )) فأصل الكلام : ثم صلوه الجحيم ، ولكن لأن التصلية واقعة فهو معذب بأي حال ، فكان المهم هنا هو النص على موضع التصلية ، لذا قدم المفعول لتقديم البشارة بالعذاب له .
(تقديم المسند إليه على خبره الفعلي)
من الموضوعات المهمة في موضوع التقديم في الإسناد : تقديم الفاعل المعنوي على خبره الفعلي، وله ثلاث صور: ثنتان منها مع النفي وواحدة دونه .
1- التقديم مع النفي: وله صورتان:
أ- أن يتقدم حرف النفي ثم يليه المسند إليه ثم يليه الخبر الفعلي ، والخبر الفعلي هو ( الفعل وما ينوب منابه من مثل : اسم الفاعل واسم المفعول والصفة المشبهة ) .
مثال ذلك قول الشاعر :
ما أنا أسقمت جسمي به ولا أنا أضرمت في القلب ناراً
فنلحظ هنا كيف تقدم النفي(ما) ثم المسند إليه، الضمير(أنا) ثم الخبر الفعلي(أسقمت)، ومثل ذلك قولنا في كلامنا : ( ما أنا كتبت الخطاب ) ، وهذه الصورة يدل التقديم فيها على القصر (الحصر ) ويلزم من هذه الصورة ثلاثة أشياء .
أ-ثبوت الفعل ( المسند ) .
ب-نفيه عن المسند إليه .
ج-ثبوته بالضرورة لآخر .
فلو عدنا إلى المثال السابق لوجدنا أن الكتابة مثبتة أو واقعة ، وأنت تنفيها عن نفسك ولا بد بالضرورة أن تثبتها لغيرك ، وعلى هذا فلا يصلح أن نقول: (ما أنا كتبت الخطاب ولا أحد غيري)، لأن في هذا تناقضاً ، إذ كيف ثبت الكتابة أولاً ، وهذا يعني أنه لا بد لها من فاعل ، ثم تنفيها عن نفسك وعن غيرك، فتكون بهذا قد نقضت ما أثبت سابقاً، وبقيت الكتابة لا كاتب لها.
ويتحقق القصر في هذه الصورة بوضوح إذا كان المسند إليه ضميراً مسبوقاً بنفي وبعده فعل ، وقد يحصل القصر بمعونة السياق إذا كان الخبر مشتقاً، وهو يدخل في مصطلح( الخبر الفعلي) كقولنا:(ما أنا كاتب هذا الخطاب) ، وشاهد ذلك من القرآن قول قوم شعيب عن شعيب عليه السلام: ((وما أنت علينا بعزيز)) فهذا التركيب يدل على ثلاثة أشياء :ثبوت الفعل وهو ( العزة)، ونفيه عن المسند إليه ( شعيب )، وإثباته لقومه ، ومما يدلنا على أن هذا التركيب جاء للقصر بدلالاته الثلاث المذكورة ، رد شعيب عليه السلام لهذا القول حيث قال : ( قال يا قومي أرهطي أعز عليكم من الله )، فالملحوظ هنا أنه عليه السلام فهم أنهم قدموا (رهطه) ، مع إنه لم يأت لرهطه ذكر في نفي قومه للعزة عنه، ولو أرادوا نفي العزة عن شعيب دون إثباتها لرهطه لقالوا : (وما عززت علينا) دون تقديم المسند إليه ، وعلى هذا النحو جاء قوله تعالى : (( وما هم بخارجين من النار )) ففي هذه الآية تركيب دال على القصر بالمعاني الثلاث السابقة وهي هنا: ثبوت الخروج من النار ، ونفيه عن الكفار وإثباته بالضرورة لعصاة المؤمنين ، لكن لما كانت بعض الفرق ترى خلود صاحب الكبيرة في النار، رفض أصحاب هذا المبدأ هذه الدلالة وعل رأسهم (الزمخشري) فهو معتزلي ، حيث قال إن التقديم هنا ليس للحصر بل هو للتقوية والتوكيد فقط، وهذا يعني عدم وجود المعاني الثلاثة المشار إليها من قبل، رغم أنه في المواطن المشابهة لهذا يقول بالقصر كالآية السابقة في شعيب عليه السلام ، لكن لما صادمت الدلالة معتقده حاول تطويع القاعدة البلاغية لمذهبه المعتزلي القائل بخلود صاحب الكبيرة في النار وعدم خروجه منها مع بقاء مسمى الإيمان له .
ب- أن يتقدم المسند إليه ويليه النفي ثم يأتي خبره الفعلي ، مثاله : ( أنا ما كتبت ) ، وهنا يكون المراد نفي الكتابة عن المسند إليه من غير ضرورة لإثباتها لغيره ، فلا يكون المدلول هو القصر، ويقال هذا الأسلوب إذا كان الفعل هو هنا الكتابة غير واقع أصلاً ، أو لا يعلم المتكلم بذلك، إما إذا كان موجوداً، والمتكلم عالم بذلك، وأراد نفيه عن نفسه فلا من سلوك الطريقة الأولى، لأنه لابد لكل من فعل من فاعل.
2- التقديم في الإثبات، وصورته: أن يتقدم المسند إليه على خبره الفعلي مع عدم وجود النفي بالكلية مثل: (أنا كتبت الخطاب، فالأصل في هذه الصورة أن التقديم يدل على التقوية والتوكيد، ويكون في مواطن الشك أو الضمان أو العقود ، مثل قوله تعالى : (( وأنا به زعيم )) ، وسبب التوكيد والتقوية في هذا التركيب هو تكرار الإسناد للفاعل، حيث أسندت الكتابة(وهي الفعل) إلى المبتدأ(وهو فاعل معنوي) مرة، وإلى الفاعل(النحوي) مرة أخرى، والمبتدأ والفاعل في هذا التركيب شيء واحد ،فـ(أنا) ، و(التاء) في المثال المذكور دالتان على شخص واحد، فكان هذا التركيب (أنا كتبت) في قوة قولك: ( كتبت كتبت ) .
وقد يدل هذا التركيب على القصر بمعونة السياق، كما ورد في قوله تعالى : (( نحن نقص عليك أحسن القصص ))، أي نحن لا غيرنا ، وهذا كثير فيما يخص صفات الله سبحانه .
ومن صور التقديم، تقديم كلمة (مثل أو غير) كقولك : مثلك لا يخلف الوعد، فهذا أروع وأفضل وأبلغ من لو قلت : أنت لا تخلف الوعد، لأن تقديم كلمة(مثل) في هذا المثال يوحي للمخاطب بشيء من المدح، رغم أنه موقف عتاب، حيث إنك أوحيت إليه أنه منتخب من صفوة معروفة بعدم إخلاف الوعد، وفي الوقت ذاته أوقفته على الخلل الذي عنده، وهو إخلافه للوعد في هذه المرة، وكأنه تعطيه دليلا أن هذه الصفة المنكرة عليه، ليست من ديدنه وعادته، بل هي طارئة وحادثة، وأنت في الوقت ذاته لا توجه ذما لغيره، ولا تجرح سواه، ومن هذا القبيل قولك معاتبا صاحبك : غيرك يخلف الوعد يافلان، فانظر لطف هذا الأسلوب ورقته وجماله ووفاءه بالمعنى، في مقابل قولك: أنت مخلف للوعد، خلف الوعد عادتك وطبعك.
ومثل هذا في حالة المدح قولك: مثلك يفي بالوعد ، وقول الشاعر:
غيري بأكثر هذا المال ينخدع ...
فكأنه قال: أنا لا أنخدع بالمال، وجعل ذلك صفة لغيره، فهو إن حصل لا يحصل منه.
ومثله قول الشاعر :
غيري جنى وأنا المعاقب فيكم فكأنني سبابة المتندم
وللتقديم أثر كبير في لفت الانتباه، وجذب اهتمام المخاطب خصوصا إذا كان المقدم أمرا غريبا، أو مبهما، كان عددا مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم : اثنان أو منهومان لايشبعان طالب علم وطالب مال .
وقول الشاعر:
ثلاثة ليس لها إياب الوقت والجمال والشباب
وقول الآخر :
ثلاثة تشرق الدنيا ببهجتهم شمس الضحى وأبو إسحاق والقمر
فقدمت هنا الأرقام للتشويق ولهذا الأسلوب أثر كبير في النفس، فإن المعلومة التي تأتي بعد تشوق وتشوف أثبت من غيرها.

الثاني:التقديم في غير الإسناد
ما سبق ذكره هو لون من ألوان التقديم ، وهو الذي تبارى فيه البلغاء، وكثر وروده في الكلام، وهناك أنواعاً أخرى مهمة ، لها مدلولات لا بد من الوقوف عندها، ليس الرابط فيها هو الإسناد.
وقد ذكر صاحب الطراز أن صور هذا النوع أربعة هي :
1-تقديم العلة على المعلول ، والسبب على المسبب .
2-تقديم الذات كتقديم الواحد على الاثنين .
3-التقديم بالشرف كتقديم الأنبياء على غيرهم .
4-التقديم بالزمان كتقديم الشيخ على الشباب .
وهذا النوع يطول الكلام فيه، ولا توجد له ضوابط محددة، لذا يفسر كل تقديم في موضعه، وسنورد على ذلك بعض الشواهد ، قال تعالى : (( ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم )) الإسراء 31 ، وقال تعالى : (( ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم )) الأنعام 151 .
فهنا يمكننا أن نتساءل، ما سر تقديم ضمير الآباء في سورة الأنعام على الأبناء، ومجي العكس في سورة الإسراء مع أن الموضوع في الظاهر واحد ؟
الجواب أن قتل الأولاد في الجاهلية كان جريمة كبرى ، وكانت له أسباب ، منها خوف العار ومنها خوف الفقر والحاجة ، وهذا الأخير هو ما عالجته الآيتان ، ولكن لما كان خوف الفقر منهم على صورتين: إحداهما تتعلق بفقر الآباء، والثانية تتعلق بفقر الأبناء ، جاءت كل آية بأسلوب خاص، وبمجموع الآيتين يتكامل المعنى ويتم المقصود .
وبيان ذلك أننا نجد آية الأنعام قد ذكرت سبب القتل وهو (من إملاق) أي: فقر وعوز وحاجة ، وهذا يدل على أن الفقر والحاجة حاصلة للآباء، فكان المناسب ضمان رزقهم أولاً ثم ضمان رزق أبنائهم لذا قال سبحانه : (( نحن نرزقكم وإياهم ))، وأما آية الإسراء فذُكر فيها أن علة القتل هي (خشية إملاق) وهذا يدل على أن الفقر غير حاصل للآباء، لكنهم يخافونه على الأبناء، فكان المناسب تقديم ما يضمن رزق الأبناء الذي يُخاف عليهم الفقر، فقال سبحانه : (( نحن نرزقهم وإياكم )) .
وتأمل معي الترتيب في آية آل عمران: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ }آل عمران191، والترتيب في قوله تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}يونس12 ، وانظر كيف قُدم هنا ما أُخر هناك، فما سر ذلك؟
الجواب : لا عجب في التغاير لأن حديث آية آل عمران كان عن أحوال ذكر العبد المؤمن ربه ، فهؤلاء المؤمنون يذكرون الله وهم قيام وتلك أشرف الأحوال فإن لم يستطيعون فقعوداً ، فإن لم يستطيعون فعلى جنوبهم ، فهم لا يفترون بحال ، وقيل بل المراد بالذكر الصلاة ، وهذه أحوالها ، فالمطلوب أن يصلي الإنسان قائماُ فإن عجز فقاعداً فإن عجز فعلى جنبه ، وقيل بل المراد أن القيام هو أوسع الأوقات للذكر لأن الإنسان فيه يكون أقل انشغالاً ، ثم يليه القعود لأنه لا يقعد إلا لحاجة أو عمل أو من تعب أو مرض ، والذكر هنا أقل ، وأما على جنبه فالمراد النوم وحينها إما أن يكون مريضاً أو بحاجة إلى راحة وتلك أقل الأوقات للذكر .
وأما آية يونس فالحديث فيها عن دعاء المضطر وابتدئ معه بالحالة الشاقة أو المشعرة بالإضطرار وهي ( الجنبة ) ثم الثانية وهي ( قاعداً) الثالثة وهي(قائماً ) . وهذا سر اختلاف نظم الآيتين .
وقال تعالى : {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً}الكهف49، ولنا أن نتساءل هنا عن سر تقديم الصغيرة على الكبيرة ؟
لعل جواب ذلك أن الكفار يوم يعاينون دقة الحساب - وهم الذين لم يؤمنوا من قبل بذلك وكانوا يحسبون أنه لا إحصاء ولا حساب- يبهتون مما يرون من دقة الحساب والإحصاء ، فقدموا الصغيرة، إشعارا منهم بأن هذا الكتاب إذا كان لا يغادر الصغيرة بل يضبطها ويسجلها فهو في شأن الكبير أشد وأقوى وأضبط .
ومما جاء فيه التقديم حادثة نومه صلى الله عليه وسلم في بيت أم سليم، فجاءت فوجدته قد عرق فأخذت تنشف عرقه وتعصره في قوارير ففزع منها وقال : ما تصنعين يا أم سليم ، قالت : يا رسول الله : نرجو بركته لصبياننا ، فقال : أصبت ) رواه مسلم .
فالملحوظ هنا تقديم السؤال عما تصنع(ما تصنعين)؛ لأنه هو الحدث المهم، والأمر المستغرب هنا، قدمه على النداء مع أن ما يقتضيه الأسلوب العادي هو تقديم النداء لغرض التنبيه .

تدريبات
* قال تعالى : (( بل قالوا مثل ما قال الأولون ، قالوا أإذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أإنا لمبعوثون ، لقد وعدنا نحن وآباؤنا هذا من قبل )) المؤمنون 81 – 83 .
* قال تعالى : (( وقال الذين كفروا أإذا كنا تراباً وعظاماً أإنا لمخرجون ، لقد وعدنا هذا نحن وآباؤنا من قبل )) النمل 67 –68 .
ما سر تأخير اسم الإشارة (هذا) في آية (المؤمنون) وتقديمه في آية ( النمل ) ؟(
[1])
* قال تعالى : (( والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه ، ومنهم من يمشي على رجلين ، ومنهم من يمشي على أربع ، يخلق الله ما يشاء ) النور 45
ما سر هذا الترتيب ؟ .
* قال تعالى : (( وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق )) الحج27 .
لماذا قدم (رجالا) ، أي: الذين يمشون على أقدامهم، على ( كل ضامر ) أي: الذين يحجون راكبين؟.


_______________________



([1])لدراسة المتشابه اللفظي في القرآن كهاتين الآيتين يرجع لكتاب : ملاك التأويل لابن الزبير الغرناطي

الإنشاء (الاستفهام)

خامسا: الاستفهام .
الاستفهام : هو طلب الاستخبار عن المجهول ،كقول الرجل الذي جاء للنبي عليه الصلاة والسلام : ( متى تقوم الساعه ) ؟ فهو يجهل موعد قيام الساعه ويطلب ويستخبر عن هذا المجهول0
-أدوات الاستفهام :
للاستفهام أدوات عشرة ، حرفان وهما : الهمزة وهل ، والباقي أسماء هي:( من وما وكم وكيف وأين وأنى ومتى وأي).
والحديث عن الاستفهام وأدواته، وخروج معانيه عن حقيقة الاستفهام طويل ومتشعب،
لذا سنقتصر هنا على الوقوف على بعض خصائص الاستفهام بـ ( الهمزة وهل )0
· همزة الاستفهام :
الهمزه لها خصائص وأحكام لابد من مراعاتها في الكلام ومن أهمها ما يأتي :-
1 – أنها تأتي للتصور والتصديق ، والمقصود بالتصديق أن يكون السؤال عن الحكم وأن يكون الجواب بـ(نعم) أو(لا) كقولنا : أصليت في المسجد ؟ فتجيب: نعم ، أو لا.
أما التصور فهو السؤال عن المفرد ويكون الجواب بالتعيين كقولنا : أأخوك مسافر أم أبوك ؟ فيكون الجواب بالتعيين ، فتقول: أخي أو أبي .
2 - أن الهمزة يليها المسئول عنه والمشكوك فيه 0
فإذا قلنا : أسعيد حاضر أم زيد ؟ وقلنا : أفي البيت محمد أم في الكلية ؟ وقلنا : أيكتب محمد أم يقرأ ؟ فيظهر من هذه الأمثله أن المسئول عنه في الأول هو الفاعل (الاسم ) ، وفي الثاني: السؤال عن المكان، وفي الثالث المسئول عنه الفعل .
3 – الحكم الثالث : أنه يجب أن يكون مابعد أم المعادِلَة موافقاً لما بعد الهمزة من حيث الاسمية والفعلية والحرفية ؛ فإذا قلت : أيكتب أخوك رسالة أم أبوك؟ كان كلامك غير صحيح، والصحيح أن تقول : أم يقرأ ، وإذا قلت: أفي البيت أبوك، فلابد أن تضع الحرف (في) بعد (أم) فتقول: أم في العمل، وهكذا .

تطبيـقات
قال تعالى:(( أأنتم أشد خلقاً أم السماء بناها )) ، فلم يقل سبحانه: (أأنتم أشد خلقاً أم أضعف) ؛ لأن السؤال عن (الفاعل) فالمراد تعيين أي المذكورين أكبر خلقاً ، وليس المراد السؤال عن الفعل، وهذا يوجب ذكر الشيئين متعادلين، وهما هنا الاسمان: (أنتم) و(السماء) 0
- (( أفرأيتم ماتحرثون * أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون ))
فجاء بعد الهمزة بالفاعل المعنوي(أأنتم) لأن السؤال عنه ، وجاء بعد (أم) بما يوافقه وهو الضمير(نحن) ، لأن الفعل وهو الزراعة حاصلة لكن السؤال عن الزارع مَنْ هو ؟
- قال تعالى : (( قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم )) .
لماذا جاء بعد همزة الاستفهام فعل الرغبة ( راغب ) بينما جاء الفاعل ( أنت ) بعد الهمزة في قوله تعالى : (( أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم )) .
جواب ذلك : أن قوله تعالى : ( أراغب أنت) قُدم فيه فعل الرغبة على الفاعل(أنت) ، لأن الاستفهام الإنكاري هنا كان عن الفعل (الرغبة) لا عن الفاعل من هو ؟ لأن هذا الكلام كان من آزر إلى ولده إبراهيم عليه السلام ، وهو يعلم أن الذي يمكن أن يرغب عن آلهته ويزهد فيها هو ابنه لعدم وجود أحد غيره في هذا المجال، لذا لا مجال للسؤال عن الفاعل بأن يقال : أأنت راغب ، بل المجهول عند والده أو المشكوك فيه، أو المستنكر عنده هو الفعل وهو(الرغبة عن الآلهة)، لذا قُدم.
أما في تحطيم الأصنام فقدكان الفعل موجوداً وهو التحطيم والتكسير، شهده الجميع ورأوه، فكان سؤالهم عن الفاعل من هو؟ لذا قدموه بعد الهمزة فقالوا : (أأنت فعلت هذا يا إبراهيم) ؟ .
قال تعالى : (( الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ،ويتفكرون في خلق السموات والأرض )) آل عمران(191) .

وفي السنه قال عليه الصلاة والسلام مستفهما لما أخبر من قبل ورقة ابن نوفل بأن قومه سيخرجونه قال: ( أو مخرجيّ هم ) ولم يقل أهم مخرجي ، هذا استفهام تعجبي إنكاري، وإنما ولي الهمزة الفعل ( الإخراج ) لكون اسم الفاعل يقوم مقام الفعل؛ لأن المسئول عنه والمستنكَر هو قضية الإخراج نفسها لانوعية المخرجين من هم، وإلا لقيل أهم مخرجي؟ ولا يكون هذا الأخير إلا إذا كانت قضية الإخراج أمرا محتوما معلوما والإنكار أن يقع ذلك من قومه، ولكن الواقع أنه r استغرب مبدأ الإخراج من أصله، لأن مكان الإخراج المشار إليه هو حرم الله وجوار بيته وبلدة الآباء من عهد إسماعيل عليه السلام ، قال السهيلي: يؤخذ منه شدة مفارقة الوطن على النفس فإنه صلى الله عليه وسلم سمع قول ورقة أنهم يؤذونه ويكذبونه فلم يظهر منه انزعاج لذلك، فلما ذكر له الإخراج تحركت نفسه لذلك لحب الوطن وإلفه، فقال: أو مخرجي هم؟ قال: ويؤيد ذلك إدخال الواو بعد ألف الاستفهام مع اختصاص الإخراج بالسؤال عنه فأشعر بأن الاستفهام على سبيل الإنكار أو التفجع .
خصائص ( هل ):
تحدثنا من قبل عن (الهمزة) وأهم أحكامها، وهنا نجمل أهم أحكام (هل).
1 – أنها تأتي للتصديق(الحكم) فقط، وهذا يعني أنه لا ذكر لـ(أم) المعادلة معها ، ولا المعادل بعدها، فلا يصح أن نقول: هل حضر محمد أم ذهب ؟ وصحة هذا أن نقول: أحضر محمد أم ذهب ؟ لكن لو وجد في الكلام البليغ (أم) بعد (هل) فنعلم أن (أم) هنا هي المنقطعة التي تدل على الإضراب بمعنى (بل) وليست أم المعادلة، كقول قتيلة بنت الحارث ترثي أخاها النضر (
[1]) :
( هل يسمَعَنَّ النضرُ إن ناديتُه ... أم كيف يسمعُ هالكٌ لا يَنطِقُ )
فمقصودها: بقولها : أم كيف؟ أي :(بل) كيف يسمع هالك لاينطق؟، وقد جاءت رواية للبيت: إن كان يسمع.
وقد قيل إن النبي r قال: لو سمعت هذا قبل أن أقتله ما قتلته، لهذا يقال: إن شعرها أكرم شعر موتورة وأعفه وأكفه وأحلمه.
2- أن ( هل ) الأكثر فيها أن تدخل على الجملة الفعلية لا على الاسمية مثل: (( هل أتى على الإنسان حينٌ من الدهر )) ؛ (( هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب إليم ))
ومع هذا نجد (هل) في القرآن الكريم داخلة على الجملة الاسمية وذلك لغرض بلاغي مثل قوله تعالى: ((فهل أنتم شاكرون)) ؛ ((فهل أنتم منتهون)) ، ولم يكن : هل تشكرون؟هل تنتهون؟ ، وذلك أنه لما أريد بيان أن الشكر دائم جيء بالجملة الاسمية ، خصوصاً أن الكلام جاء بعد نعمة عظيمة تظهر في قوله تعالى: ((وعلمناه صنعة لبوس لكم * لتحصنكم من بأسكم فهل أنتم شاكرون ))، أي : فهل تقرر شكركم وثبت، لأن تقرر الشكر هو الشأن في مقابلة هذه النعمة، نظير قوله تعالى ( فهل أنتم منتهون ) في آية تحريم الخمر ، المراد منها الاستمرارية على الانتهاء عن الخمر، فجيء بالجملة الاسمية الدالة على ذلك ؛ لأنه لا يحسن أن ينتهي الإنسان شهراً ثم يعود، ولو كان المراد هو الشكر المؤقت لقيل : فهل تشكرون ؟ أو الانتهاء المؤقت لقيل : فهل تنتهون ؟
________________________

([1]) من ذلك قولها:
( يا راكباً إنّ الأُثَيْلَ مِظَنَّــةٌ ... مِن صُبْحِ خامسةٍ وأنتَ مُوفَّقُ )
( أبلِغْ به مَيْتاً بـأنّ تحيّــةً ... مـا إن تزالُ بها النجائبُ تخْفُقُ )
(مِنِّي إليكَ وعَبْرةً مسفوحـةً ... جادتْ بِـدرَّتها وأخرى تَخْنَقُ )
( هل يسمَعَنَّ النضرُ إن ناديتُه ... أم كيف يسمعُ هالكٌ لا يَنطِقُ )
( ظَلّتْ سيوفُ بني أبيهِ تنوشُه ... للهِ أرحـامٌ هنـاكَ تُشَـقَّقُ )
( صبراً يُقادُ إلى المنيّة متُعَـباً ... رَسْـفَ المقيَّدِ وهو عانٍ مُوثَقُ)
( أمُحمدٌ ولأنتَ نَسْلُ نَجِيبةٍ ... في قومها والفحلُ فَحلٌ مُعْرِقُ )
( ماكان ضرّكَ لو مَنَنْتَ وربّما ... مَنَّ الفتى وهو المَغيظُ المُحْنَقُ )
( أوْ كُنـتَ قابلَ فديةٍ فَليأْتِينْ ... بأعـزِّ ما يَغْلو لديكَ ويَنفُقُ )
( والنضرُ أقربُ مَنْ أخذتَ بِزَلّةٍ ... وأحقُّهم إن كان عِتقٌ يُعْتَقُ )

الإنشاء (التمنّي والنداء)

ثالثا: التمنــي .
وهو طلب المستحيل أو البعيد عادة أو عرفاً، والفرق بينه وبين الترجي أن الترجي لطلب القريب أو البعيد المأمول حصوله ؛ فقول القائل: ( ليت لى داراً )، يفهم منها أنه لايستطيع بحال أن يملك داراً ، فيكون ذلك من التمني ، لكن إذا كان يملك بعض المال ويستطيع بعد زمن أن يملك الدار فالأحسن أن يقول : ( لعلي أشتري داراً ) ، أما المستحيل فهو يُتمنى ولا يُترجى إلا لسر كما سيأتي.
أدوات التمني : للتمنى أدوات هي: ليت وهي أم الباب، ولعل، ولو.
(1) ( ليت )، كقوله تعالى: (( ياليت لنا مثل ما أوتي قارون )) .
وقول الشاعر :
ليت وهل ينفع شيء ليت ليت شبـاباً بوع فاشتريت
وقول الآخر :
ألا ليت الشباب يعود يوماً فأخبـره بما فعل المشـيب
ويظهر من كل هذا أن المتمنَّى بـ(ليت) واقع بحيز المستحيل ، لكن الإنسان يسلك هذا السبيل كنوع من التنفيس عن نفسه 0
(2) ( لعل ) ، تكون للتمني لا الترجي إذا كان مدخولها مستحيلا أو بعيدا جداً في العادة ، ويقصد بالتمني بها التفاؤل بقرب حصول المطلوب، فالذي ليس عنده مال ويستحيل لمثله أن يملك داراً فيقول:( لعلي أملك دارً ) ، فهو هنا يقرب لنفسه حصول المأمول ، وقد يظهر ذلك بصورة أوضح في قوله تعالى: (( حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون * لعلي أعمل صالحاً فيما تركت )) ، فمن المعلوم أن من يقول هذا لايمكن أن يعود مرة أخرى ، وهو ذاته كان ينكر البعث والإعادة ، لكنه عندما عاين الحقائق ، أخرج التمني في صورة المأمول بـ ( لعل ) رجاء أن يحصل على مطلبه.
3- لو ، وهي في الأصل حرف امتناع لامتناع ، وتدل أيضاً على أن مابعدها أقصى غاية الطلب ، لذا تمنى بها الكفار العودة إلى الدنيا ، فقالوا: (( فلو أن لنا كرة فنكون من المؤمنين )) فالتمني بـ(لو) يشعر باليأس الكامل من تحقيق المطلوب، كما يدل عليه معناها الأصلي(امتناع لامتناع)، فأهل النار عندما يعاينون مصيرهم ويدركون حجم الخطأ بتفريطهم بالعمل في الحياة الدنيا، يقولون: ( فلو أن لنا كرة) يقول الشوكاني": هذا منهم على طريق التمني الدال على كمال التحسر كأنهم قالوا : فليت لنا كرة : أي رجعة إلى الدنيا وجواب التمني فنكون من المؤمنين : أي نصير من جملتهم"، لكنهم موقنون بعدم العودة لأن الله قال لهم : (( اخسئوا فيها ولاتكلمون )) وقال : ((خالدين فيها أبداً )) وقال سبحانه: (( لابثين فيها أحقاباً )) فتمنوا تمني اليأس فقالوا:( لـو ).
(4) هل ، وهي في الأصل للاستفهام ويخرج التمني بها للتفاؤل بحصول المتمنى حتى كأنه سؤال يُسأل ، كما تشعر أيضا بالاستعطاف، وطلب الإجابة، قال الله تعالى عن الكفار: (( فهل إلى خروج من سبيل )) ولعلنا نتساءل هنا لماذا تمنى الكفار مرة بـ(لو) ومرة بـ(هل) ؟
تمنوا بـ(هل) في المرة الأولى طمعاً في الإجابة، فأنت تقول لمن تأمل إجابته: هل تسامحني؟ لرجائك الكبير فيه ، لكنهم لما أجيبوا برفض الطلب بمثل :(( اخسئوا فيها ولاتكلمون )) ، و(( خالدين فيها أبد ))000تلاشى أملهم وتملكهم اليأس تمنوا تمني اليائس فقالوا: (( لو أن لناكرة ))0

رابعا: النــــداء
تعريفه ، هو: طلب إقبال المدعو بإحدى أدوات النداء .
مثاله :يا محمد أقبل .
أدواته :ينقسم النداء إلى قسمين نداء القريب ، ونداء البعيد.
* أدوات نداء القريب :-
أ - الهمزة ب - أي
مثاله : قول ابن الوردي يوصي ولده 0
أي بنيَّ اسمعْ وصايا جَمَعَتْ ... حكَماً خصت بها خير المللْ
أدوات نداء البعيد كثيرة منها:-
أ – يـا 0 ب – هيـا 0 ج - أيا
** والأصل أن ينادى القريب بأداة القريب والبعيد بأداة البعيد ، ولكن قد يتغير هذا الأصل، ويخرج الكلام عن مقتضى الظاهر، وهنا لابد من السؤال عن السر، ويكون ذلك على صورتين :-
الأولى : نداء القريب بأداة البعيد.
مثل قول أبي نواس :
يارب قد عظمت ذنوبي كثرة ولقد علمت بأن عفوك أعظمُ
فالشاعر هنا يناجي ربه، والله جل جلاله قريب من عباده بدليل قوله تعالى: (( وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعان )).
وعن أبي موسى الأشعري قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة فجعلنا لا نصعد شرفا ولا نعلو شرفا ولا نهبط في واد إلا رفعنا أصواتنا بالتكبير قال فدنا منا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:" أيها الناس أربعوا على أنفسكم فإنكم ما تدعون أصم ولا غائبا إنما تدعون سميعا بصيرا إن الذي تدعون أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته".
وهنا نتساءل لماذا ينادَى القريب بأداة البعيد؟ جوابا على ذلك نقول: إن السر في نداء القريب بأداة البعيد هو التدليل على علو شأنه ومكانته، فالشاعر هنا يدلل بأسلوبه هذا على اعترافه بعلو شأن الخالق سبحانه وعظيم قدره، ومما
وقد ينادى القريب مناداة البعيد لإرادة التنبيه إما بسبب أهمية الموضوع، أو لشرود ذهنه وإن كان حاضر الجسم، فتقول لمن هو قريب منك : يا خالد، تنـزيلاً له منـزلة البعيد، لأنه شارد الذهن0
الصورة الثانية : مناداة البعيد بأداة القريب 0
وذلك كقول الشاعر في ولده الذي مات :
أمحمد ما شيء تُوُهِّم سلوةً لقلبي إلا زاد قلبي من الوجدِ
فمعلوم أن الميت بعيدٌ جداً فلا لقاء في هذه الدنيا ، وبهذا يكون السر في هذه الصورة هو الدلالة على قرب المنادى من القلب وحضوره في الذهن وإن كان بعيدا قد غيب الثرى جسده0

الإنشاء (الأمر والنهي)

الإنشاء

وهو ضد الخبر ، ويقال في تعريفه : إنه الكلام الذي لا يحتمل الصدق أو الخبر لذاته.
هو نوعان:
1- إنشاء طلبي : وهو ما يستدعي مطلوبا غير حاصل وقت الطلب.
2- إنشاء غير طلبي: وهو مالا يستدعي مطلوباً أصلاً، مثل : صيغ العقود(بعت ، واشتريت)، والقسم ، وأساليب المدح والذم (نعم وبئس)، والدعاء.
وهذا النوع من الإنشاء لاتتعلق به لطائف بلاغية ذات قيمة لذا سنتجاوزه إلى النوع الثاني وهو: الإنشاء الطلبي لذي يشمل ما يأتي: الأمر والنهي والتمني والنداء والاستفهام.
أولا: الأمر .
تعريفه، هو: طلب الفعل على جهة الاستعلاء ، مثل قوله تعالى:( وأقيموا الصلاة).
والأصل أنه يقتضي الوجوب والتنفيذ الفوري، إلا إذا جاء ما يخرجه عن ذلك.
صِيَغُه: للأمر صيغ أربع هي:
1- فعل الأمر، مثل قوله تعالى: (وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له).
2- المصدر النائب عن فعله مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة).
3- اسم فعل الأمر مثل: (صه) بمعنى اسكت، و(مه) بمعنى اكفف، و(آمين) بمعنى استجب.
4- الفعل المضارع المقترن بلام الأمر مثل قوله تعالى: (لينفق ذو سعة من سعته).
ولا شك أن لكل صيغة مدلولها وموقعها الذي تستخدم فيه.


أغراض الأمر:
الأصل في الأمر أن يراد منه التنفيذ على وجه الوجوب والفور، وقد يراد منه غير ذلك بالقرائن ( الأدلة والشواهد الحالية والمقالية).
ومما يخرج إليه الأمر عن وجوب التنفيذ أو فوريته ما يأتي:-
1- الإباحة كقوله تعالى: (( وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ))، فليس المراد هنا وجوب الأكل والشرب إلى الوقت المذكور، وإلا لأثم من لا يأكل في الليل مستمرا حتى الفجر، وإنما المقصود هو الإباحة بعد المنع.
2- التهديد كقوله تعالى : )اعملوا ما شئتم إنه بما تعملون بصير ( هذا أمر تهديد : أي اعملوا من أعمالكم التي تلقيكم في النار ما شئتم إنه بما تعملون بصير فهو مجازيكم على كل ما تعملون قال الزجاج لفظه لفظ الأمر ومعناه الوعيد.
3- الإهانة والتحقير ،كقول جرير في الفرزدق :
زعم الفرزدق أنه سيقتل مربعــاً أبشر بطول سلامـة يامِرْبَـعُ
4- التحدي والتعجيز ،كقوله تعالى: (( فأتوا بسورة من مثله )).
وقال الفرزدق:
أولئك آبائي فجئني بمثلهم إذا جمعتنا ياجرير المجامع
5- الالتماس ، وهو ماكان من متساويين ،كقول الزميل لصاحبه : أعطني الكتاب0
6- الدعاء ، وذلك إذا كان الطلب من الأدنى إلى الأعلى ،مثل: (( ربنا اغفر لنا )).

ثانيا: النهــي .
النهي : هو طلب الكف عن الفعل على وجه الاستعلاء مثل قوله تعالى: (( ولاتقربوا الزنى ))، وهو في الأصل يدل على وجوب الانتهاء عن الفعل على الفور .
صيغته : له صيغة واحدة هي: الفعل المضارع المسبوق بلا الناهية، مثل المثال السابق، ويخرج النهي عن إرادة الكف عن الفعل على الفور إلى أغراض أخرى إذا دلت القرائن على ذلك مثل:
1- التوبيخ ، كقول المتنبي 0
لاتنه عن خلق وتأتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيم
2- الدعاء ، كقوله تعالى : (( ربنا لاتؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ))، وضـابط ذلك أن يكـون من أدنى إلى أعلى 0
3- الالتماس : وذلك إذا كان النهي من متساويين مثل قولك لصاحبك : ( لاتجلس عند الباب ) 0
4-التهديد : مثل قولك للمهمل: ( لاتدرس ) .

الخبر وأضربه وأغراضه

الخـبر والإنشـاء
ينقسم كلام العرب إلى قسمين – خبر وإنشاء أولاً: - الخبر ، وتعريفه : هو الكلام الذي يحتمل الصدق أو الكذب لذاته0
مثال ذلك :
- ( قائد حطين هو صلاح الدين ).
- للمؤمنين الجنة ، وللكافرين النار0
ويظهر من الأمثلة السابقة أن القائل صادق ، لذا فكلامه موصوف بالصدق، وبهذا فهو خبر، ولو قلنا : ( المطر نازل )، فخرجنا فلم نجد شيئاً، فيكون الخبر كاذباً، وبهذا نعلم أن هذه الأمثلة كلها من باب الخبر لا الإنشاء0
أما قولنا : (لذاته) فحتى ينصرف التكذيب أو التصديق لذات الخبر بغض النظر عن المخبر، وبذا تخرج الأخبار الصادقة قطعاً كالقرآن وصحيح السنة، والأخبار المكذوبة قطعاً كقرآن مسيلمة وأحاديث الوضاعين ، لكن لو قلتَ لصاحب أو زميل : يا محمدُ اشترِ لي قلماً أو بعتك السيارة ، فهنا لا نستطيع أن نقول: صدقت أو كذبت، فدل هذا على أن الكلام المذكور ليس خبراً بل هو إنشاء ، وهو مالا يحتمل الصدق أو الكذب لذاته ، وهو يشمل مايأتي : الأمر، والنهي ، والاستفهام ، والتمني ، والنداء0
وسيأتي تفصيل ذلك إن شاء الله 0

أولا : الخبر.
نحتاج في موضوع الخبر أن نعرف مايأتي: أغراض الخبر، أضرب الخبر، مؤكدات الخبر.
أغراض الخبر :
لأي خبر نخبر به غرضان رئيسان هما: فائدة الخبر ، ولازم الفائدة.
أولاً: فائدة الخبر.
ويكون ذلك إذا كان المخاطب يجهل مضمون ذلك الخبر ، فإذا قلت لزميلك مبشرا : ظهرت نتائج الامتحان ،أو قلت له:انتصر المسلمون على عدوهم ، فيكون الغرض من حديثك هذا هو إيصال مضمون الخبر لجهله بالخبر كله.
ثانياً: لازم الفائدة، وذلك عندما يكون المخاطب عالماً بمضمون الخبر، فلا يضيف له ذلك الخبر معلومة جديدة، بل أحيانا يكون المخاطب أكثر معرفة بمضمون الخبر من المتكلم، كقولك لصاحبك على سبيل الإخبار لا السؤال: اسمك محمد، أو قولك : أنت قدمت من السفر أمس ، أو: قولك (أنت تدرس في جامعة تبوك) ، فكل هذه المعلومات والأخبار لايجهلها المخاطب بل هي معلومة له، فما فائدة الإخبار بها إذاً ؟ وماهدف المتكلم منها ؟
يكتشفها المخاطب من طريقة حديثك ، والحال التي تحيط بالمقال ، فقد يراد منها أحيانا التهديد ، وأحياناً يراد التعريف والقرب كقولك لرجل ترغب في التعرف عليه: أنت فلان ابن فلان، وأحيانا يراد جَرّ المتهم إلى الاعتراف كما هو حاصل في التحقيق مع المجرمين.
هذان هما الغرضان الرئيسان ، أما الأغراض الفرعية فهي كثيرة ، وتتبين من خلال السياق ومنها :
1- إظهار التحسركقول أم مريم: (( رب إني وضعتها أنثى ))، فمن المقرر أن مريم لم ترد مضمون الخبر؛ وهو إخبار الله سبحانه بأنها وضعت أنثى؛ لأن المخاطب وهو الله عز وجل عالم بذلك، ولم تقصد أيضاً لازم الفائدة ؛ لأن الله عز وجل يعلم أنها عالمة ، ولكن فائدة كلامها هو إظهار التحسر والتأسف على أنها كانت تريده ذكراً لا أنثى حتى يخدم بيت المقدس كما نذرت ، فلما جاءت أنثى أصابها الحزن ؛ لأنها لن تستطيع أن تقوم بمايقوم به الذكر، ومرد ذلك كله حرصها على الخير.
ومن هذا القبيل قول لبيد:
ذهب الذين يعاش في أكنافهم وبقيت في خَلْف كجلدِ الأجربِ
فهو يتحسر على زمان مضى بسبب مايرى من فساد في زمانه .
2- إظهار الضعف ، ومنه ماجاء على لسان موسى عليه السلام :(( رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير ))، وذلك بعدما ظهرت قوته في قضائه على الرجل بوكزه له ، وبرفعه غطاء البئر، بعد هذا كله قال ذلك اعترافاً بضعفه، وإظهارا لحاجته إلى ربه .
وقول زكريا عليه السلام: (( رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيباً ))، قال ذلك بعدما تقدم به السن وأيس من الولد لكن الرجاء في الله عظيم، فما زال يدعو ربه، ويظهر ضعفه، بمثل هذه الآية حتى استجاب له سبحانه، فزكريا عليه السلام لا يخبر ربه هنا لأجل فائدة الخبر؛ لأنه العليم الخبير سبحانه، لكنها شكوى العبد الضعيف إلى مولاه، ليرحمه ويعطيه سؤله.
3-الوعظ والإرشاد : ومنه قوله تعالى : (( كل نفس ذائقة الموت )) فهنا لايستفيد المستمع مضمون الخبر، لأنه لاينكر وقوع الموت أحد، فدل هذا على أن الخبر له غرض آخر وهو الوعظ ، لذا كان مراد مَنْ يذكر هذه الآية في خطبة أو موعظة هو ترقيق القلوب ، والتذكير بالمصير المعروف ليتعظ الناس .
وهناك أغراض أخرى كثيرة للأخبار التي نخبر بها تفهم من السياق مثل: المدح، والفخر، والعتب، والاعتذار، وغيرها.
أضْرُب الخبر
الضرب هو: النوع ، والأضرب : الأنواع0
الكلام المتلقى لابد أن يكون ملائماً للغرض مناسباً للحال ، فليس من البلاغة أن تأتي إلى رجل خالي الذهن من الخبر عن( نجاح أخيه) وهو أيضاً غير شاك في قدرة أخيه على النجاح، ثم تقول له من أول لحظة : والله إن أخاك لناجح ،لاشك أنك إن فعلت ذلك معه سيستغرب هذا النمط من الكلام، وبدل أن تؤكد له الخبر سببت له شكا فيه ؛ لأنك حلفت وأكدت في غير موطن التأكيد والحلف ، بل إنه ربما سألك عن سبب هذا الحلف ، وليس من البلاغة أيضاً أن تصادف رجلا مُسْلِماً ولو بالاسم ثم هو لا يصلي، وينكر –علناً- فرضية الصلاة وعدم وجوبها وأنه لا دليل عليها ، ليس من البلاغة هنا أن تخاطبه بقولك : الصلاة واجبة ، بل الصحيح أن تقول للأول (الخالي الذهن ): ( أخوك ناجح ) بلا تأكيد، وتقول للثاني وهو المنكر:( والله إن الصلاة واجبة ) ، وبهذا نعلم أن نوع الكلام يتغير بتغير حالة المخاطب؛ ولهذا كان الخبر بحسب حال المخاطب على ثلاثة أنواع هي :
( أولاً )الابتدائي : وهو الخبر الموجه لمخاطب خالي الذهن ، فهنا يوجه الكلام إليه خالياً من كل مؤكد تناسبا مع خلو ذهنه من الخبر.
( ثانياً ) الطلبي : وهو الخبر الموجه لمخاطب شاك أو متردد، فهنا يستحسن تأكيد الكلام له بمؤكد واحد، لإزالة تردده وشكه.
( ثالثاً ) الإنكاري : وهو الخبر الموجه لمخاطب منكر أو مكذب ، فهنا لابد من توكيد الكلام له بأكثر من مؤكد ، بحسب قوة الإنكار والتكذيب ، وبهذا نعلم أن أضرب الخبر ثلاثة وهي:
1- ابتدائي لخالي الذهن 2-طلبي للشاك والمتردد 3-إنكاري للمنكر والمكذب
ولتوضيح ذلك نضرب هذا المثال: لو فرضنا أنك تريد إخبار أحد زملائك عن الإعلان عن الاختبارات النهائية ، فتقول له في الأحوال العادية : أعلنت الكلية عن الجدول النهائي للاختبارات، فإن رأيت منه ترددا ، أو شكاً ، بسبب خبر آخر وصله أو غير ذلك فمن البلاغة أن تنتقل معه إلى النوع الثاني وهو الطلبي فتقول : إن الكلية أعلنت عن الجدول النهائي للاختبارات، فتؤكد له الكلام بـ(إنّ)، فإن وجدت منه تكذيباً لكلامك بأن يقول لك : معلوماتك غير صحيحة ، وأنا أعلم أنك واهم فيما تقول، فهنا لابد من النوع الثالث : الإنكاري فتقول : إن الكلية قد أعلنت عن الجدول النهائي للاختبارات، فتؤكد له بـ(إنّ وقد)، فإن زاد في الإنكار ، زدت معه في المؤكدات فيمكن أن تقول له : والله لقد أعلنت الكلية عن الاختبار، فتؤكد له بـ(إنّ وقد والقسم).
وهذا التنوع في الخبر -بحسب- المخاطب واضح في الأسلوب القرآن، ولعل ذلك يتضح من خلال هذا الشاهد القرآني، قال الله تعالى: {واضرب لهم مثلاً أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون * إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما * فعززنا بثالث* فقالوا إنا إليكم مرسلون* قالوا ماأنتم إلا بشر مثلنا * وما أنزل الرحمن من شيء إن أنتم إلا تكذبون * قالوا ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون }0
سنقف مع هذه الآيات لننظر في أنواع الخبر الواردة فيها، وكيف ترقى التوكيد مرة بعد مرة، بحسب درجة الإنكار، فنجد الخبر الأول وهو: ((إنا إليكم مرسلون )) قد جاء ملائما لرد القوم الذين كذبوا الرسَل بدليل قوله تعالى : ((فكذبوهما )) وهو دليل على إنكارهم ، فقال الرسل :((إنا إليكم مرسلون )) فأكدوا كلامهم بـ(إن واسمية الجملة ، إذ هي تدل على الثبوت، وبالتقديم للجار والمجرور (إليكم) أي: إليكم خصوصاً)، ثم رد الأقوام على الرسل بتكذيب أشد وإنكار أعنف حيث قالوا لهم: ((ما أنتم إلابشر مثلنا وما أنزل الرحمن من شيء إن أنتم إلا تكذبون )) ، فوصفوهم بعدم الأهلية للرسالة فماهم إلا بشر، وقد شددوا في ذلك كما يدل عليه الحصر بطريق النفي والاستثناء، وأيضاً فقد أنكروا أنهم نُزِّل عليهم من الرحمن شيء ، وأمعنوا في ذلك كما يدل عليه دخول الجار(من) على كلمة (شيء ) أي جزء من الشيء ، ثم نسبوهم إلى الكذب صراحة : فهذه خمسة مظاهر من مظاهر التكذيب جابهوا بها الرسل وردوا بها كلامهم.
وكما نرى هنا فالإنكار قد تنامى وزاد ،هذا يحتاج إلى رد مناسب لزيادة هذا الإنكار ، فكان أن قالوا : (( ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون )) فحشدوا ستة مؤكدات في كلامهم : الأول : إنّ ، الثاني: اسمية الجملة ، الثالث : التقديم(إليكم) ، وهذه قد سبقت من قبل ، الرابع : التأكيد بنسبة العلم إلى الله ، الخامس : القسم ( ربنا ) ، السادس : اللام في (لمرسلون) 0
وهكذا يتبين كيف تغير الكلام بتغير حال المخاطب ، وكيف زادت المؤكدات بزيادة نسبة التكذيب والإنكار ، وهكذا ينبغي أن يكون كلامنا0

المؤكدات في كلام العرب
لابد لدارس البلاغة أن يعرف المؤكدات التي يمكن أن يستخدمها لرد الإنكار أو إزالة الشك والتردد ومن أهم تلك المؤكدات ما يأتي :
1- إنّ وأنّ 0
2- لام الابتداء ، كقوله تعالى :(( لأَنتم أشد رهبة في صدورهم من الله ))
3- القسـم ،كقوله تعالى: (( وتا الله لأكيدن أصنامكم بعد أن تولو مدبرين ))
4- ضمير الفصل ، كقوله تعالى : (( وأولئك هم المفلحون ))
5- قـد وخصوصا إذا دخلت على الماضي، كقوله تعالى: ((قد أفلح المؤمنون ))
6- اسمية الجملة 0
7- نونا التوكيد ، كقوله تعالى: (وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِّنَ الصَّاغِرِينَ ) يوسف32
8- أحرف التنبيه ( ألا ، أما ) كقوله تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ }يونس62، وقوله صلى الله عليه وسلم: (يا بني سلمة ألا تحتسبون آثاركم)، قولهr : (ألا تعجبون كيف يصرف الله عني شتم قريش ولعنهم يشتمون مذمما ويلعنون مذمما وأنا محمد)
9- الحروف الزائدة للتوكيد مثل: ( مِنْ ) ( من شئ ) ، الباء ( وما ربك بظلام للعبيد ).
10- أسلوب القصر، لأنه توكيد فوق توكيد مثل:( وما من إله إلا الله)، (وما محمد إلا رسول).

تدريبات
بين نوع الخبر فيما يأتي ، وبين سبب التوكيد وسره ، وعين أدوات التوكيد فيه :
أ- قال تعالى: (( وتالله لأكيدن أصنامكم بعد أن تولو مدبرين )) ( 57 الأنبياء)
ب- قال تعالى: (( لئن لم ينته لنسفعن بالناصية )) (15 العلق )
ج- قال تعالى : (( ألاإنهم هم السفهاء ولكن لايعلمون )) ( 13 البقرة )
د- قال تعالى: (( إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله * والله يعلم إنك لرسوله * والله يشهد إن المنافقين لكاذبون )) ( 1 المنافقون )





خـروج الكـلام عن مقتضى الظـاهر
فيما يتعلق بتوكيد الكلام من عدمه
الأصل أن خالي الذهن لا يؤكد له الكلام والشاك والمتردد يستحسن أن يؤكد له الكلام بتوكيد واحد والمنكر يؤكد له بأكثر من مؤكد حتى يزول الإنكار وقد عرفنا هذا من قبل، لكننا قد نجد كلاماً يخرج عن هذا الأصل ، فينـزل غير المنكر منـزلة المنكر، أي يعامل معاملته، كما يظهر ذلك في قوله تعالى: ((ثم إنكم بعد ذلك لميتون )) فنحن نعلم أن الموت لاينكره أحد ولا يشك فيه فكيف إذاً يؤكد الكلام بـ(إن و اللام واسمية الجملة)؟0
الجواب عن ذلك في هذه أن المخاطب (غير المنكر) نُزِّل في هذه الآية (منزلة المنكر) فعومل معاملته فأكد له الكلام، والسؤال هنا: لماذا كان ذلك؟ الجواب: لأن المراد هو إيقاظ الناس من غفلتهم ؛ لأنهم وإن كانوا لاينكرون الموت بأقوالهم إلا أن حالهم وتعاملهم وطول أملهم وفشو الظلم بينهم يدل على أنهم لا يتذكرون الموت، ولا يشعرون به ، فكأنهم بهذا ينكرون وقوعه، لذا حَسُن أن يكون الكلام الموجه إليهم مؤكداً بمؤكدات عدة.
وهناك صورة أخرى وهي: أن ينـزل المخاطب خالي الذهن منـزلة المتردد والشاك، وذلك إذا تقدم في الكلام مايستدعي التساؤل والاستفهام من المخاطب، كالنهي والأمر، والخبر الغريب، حينها يحسن توكيد الكلام بما يزيل هذا التردد والشك المتوقع عند المخاطب.
قال تعالى في شأن نوح عليه السلام: (( ولاتخاطبني في الذين ظلموا، إنهم مغرقون )) ، فنجد التوكيد في الخبر : ( إنهم مغرقون ) مع أن نوح عليه السلام خالي الذهن من الكلام الخاص بعقوبة الظالمين، لأن أمر العقوبة إلى الله، لكن لما نهاه الله سبحانه عن المخاطبة في شأنهم ، تطلعت نفسه إلى معرفة ماسيؤول إليه أمرهم، فحتى يرتفع ما بنفسه من تساؤل أُكد له الكلام.
ومثل هذا قوله تعالى : (( ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا. إنهم لا يعجزون ))، حيث كان الكلام السابق للخبر(إنهم لا يعجزون)، محركا لسؤال، مفاده: كيف أو لماذا ، جاء الخبر مجيبا عن هذا التساؤل فأُكد بمؤكد واحد.
وهناك صورة ثالثة وهي بعكس ماسبق بمعنى: أن ينـزل المخاطب المنكر منـزلة غير المنكر فيوجه الكلام إليه دون توكيد ، وذلك إذا كان الخبر مما يُعلم ولايُجهل مثله، ولايصلح أن يجادل فيه أحد لظهور علاماته وكثرة دلالاته ، مثل قوله تعالى مخاطباً المشركين : (( وإلهكم إله واحد )) بدون توكيد، مع أن الكفار ينكرون وحدانية الله، لكن لما كانت كل الدلائل تشير إلى ذلك وأنه سبحانه واحد كان عدم التوكيد هنا أولى، للتدليل بأن ما تنكرونه أظهر من أن يؤكد له الكلام، فقام تضافر الأدلة عليه، وظهورها مقام التوكيد.




خصائص الكلام

أولا: فن المعاني
يعد فن المعاني أكثر فنون دقة وطرافة وثراء، وهو يحتاج إلى جهد ذهني أكبر، وذلك لأنك به تستطيع تعليل النظم وطريقة الكلام ، واختيار العبارة ، واللفظة ، والأداة ، أو تركها.
وقبل أن نتعمق في مباحث هذا الفن فلابد أن نعلم بداية أن الكلام الذي يجريه الإنسان على لسانه أو يخطه بقلمه يكون على ترتيب خاص، وهو يتغير من إنسان إلى آخر ،وسر هذا التغير نوع الاهتمام، فالمهم عند الإنسان يقدم أو يذكر أو يكرر؛ لذا قالوا :إن ترتيب الكلام في الخارج مبني على ترتيب المعاني في الداخل ( أي في النفس )، فإذا قلنا مثلاً على صورة السؤال : أَحَضر أخوك ؟ فإنه ليس مثل أن نقول : أأخوك حضر ؟ نظرا لتغير مواقع الكلمات، بناء على تغير مراد المتكلم.
ففي المثال الأول: كانت العناية فيه عند المتكلم بالفعل، وهو الحضور أما الفاعل فإنه معروف لديه، فالسائل عنده علم مسبق بحضور أخيه، لذا فهو يسأل عن هذا الحضور الذي يجهله، أ تم أم لم يتم؟ ومادام الفاعل وهو (أخوك ) معلوما فلم السؤال عنه ؟!
أما الأسلوب الثاني فالعناية فيه بالفاعل؛ لذا قُدم في السؤال، فالحضور ثابت ومستقر عند السائل، لكن الذي يجهله هو الفاعل لذا كان السؤال عمن حضر.
وبهذا نعلم أن تغير المواقع يدل على تغير المعاني، فيجب على البليغ أن يفرق في الأسلوب بين ما قدم وما أخر، وماحذف وماذكر ... إلى غير ذلك من الأساليب التي يدرسها علم المعاني0
ومثل هذا الأمر واضح في أعظم بيان وأبلغ أسلوب ، ألا وهو القرآن العظيم، تأمل معي هذا الشاهد القرآني الذي نتبين من خلاله مدلولات تغير مواقع الكلم، قال تعالى عن هذا القرآن العظيم :-((ألم ذلك الكتاب لاريب فيه هدى للمتقين))، وقال سبحانه عن خمر الجنة: (( لافيها غول ولاهم عنها يُنْزَفون )).
فنلحظ هنا كيف جاء ترتيب كلمات هذه الجمل ؛ ( لاريب فيه)،( لافيها غول)،فمع الكتاب أُخر الجار والمجرور (فيه)، بينما قُدم مع خمر الجنة (لا فيها غول)، يقول الزمخشري: "فإن قلت : فهلا قدم الظرف على الريب كما قدم على الغول في قوله تعالى : " لا فيها غول "؟ قلت : لأن القصد فى إيلاء الريب حرف النفي، نفي الريب عنه وإثبات أنه حق وصدق لا باطل وكذب كما كان المشركون يدعونه، ولو أُولي الظرف لقصد إلى ما يبعد عن المراد وهو أن كتابا آخر فيه الريب فيه كما قصد في قوله : " لا فيها غول " تفضيل خمر الجنة على خمور الدنيا بأنها لا تغتال العقول كما تغتالها هي، كأنه قيل : ليس فيها ما في غيرها من هذا العيب والنقيصة".
ومعنى هذا أن المراد مع الكتاب في هذا المقام هو نفي الريب والشك عنه دون التعرض لغيره؛ لذا انصب النفي مباشرة على "ريب" ،ومعنى نفي الريب عنه أن هذا الكتاب في علو الشأن وسطوع البرهان بحيث ليس فيه مظنة أن يُرتاب في حقيقته وكونه وحيا منزلا من عند الله تعالى، ولم يقصد ههنا الإشعار بثبوت الريب في سائر الكتب ليقتضي المقام تقديم الظرف كما في قوله تعالى (لا فيها غول)، لأن السياق هنا للموازنة بين خمر الدنيا وخمرالجنة، فدل هذا التقديم لـ(فيها) على نفي الغول عن خمر الجنة وإثباته لخمر أخرى ألا وهي خمر الدنيا ؛ لأن تقديم الجار والمجرور (فيها) دل على القصر، أي فيها خصوصاً ، وقد حسَّن ذلك هنا أن السياق لذكر النعيم للمؤمنين في الجنان، و لاشك أن مما يسعدهم ويدخل البهجة على نفوسهم ويحدوهم إلى تلك الجنان، ويزهدهم في لذائذ الدنيا المحرمة هذا التفضيل الذي فُهم من تقديم الجار (فيها).
وبهذا ندرك المقصود من تعريف علم المعاني الذي يقول :-
(هو مجيء الكلام على مقتضى الحال )من حذف أو ذكر أو تقديم أو تأخير أوتكرار أو إطناب أو إيجاز .









خصائص الكلام

1- اسم 2- فعل 3- حرف

نظراً لكون كلامنا لا يخرج عن: اسم ، وفعل ، وحرف كان لزاماً أن نتعرف أولاً على خصائص مكونات هذا الكلام ؛ والقضايا المؤثرة فيه، لأننا بذلك ننجح في استخدام هذه المكونات في مواضعها الصحيحة، ألست معي أن من يعرف خصائص جهاز (ما) يستطيع استخدامه كما ينبغي؟ ، ويصل إلى الغاية التي من أجلها صنع! ، فكذلك الكلمات من يعرف خصائصها يجيد استخدامها، والعكس صحيح؛ لذا فلا بد أن نتعلم أهم خصائص الألفاظ حتى نطور كلامنا ، ونرتقي بأساليبنا إلى أعلى مستوى .
الاسم والفعل ( الجملة الاسمية والفعلية)
يقوم الكلام العربي على إحدى الجملتين (الفعلية ، والاسمية)، وكل منهما يتكون من مسند ومسند إليه، ففي الفعلية يكون المسند هو الفعل ، والمسند إليه هو الفاعل فمثلاً عندما نقول : ( قام محمد ) نكون قد أسندنا القيام إلى محمد ، أي الفعل إلى الفاعل.
وفي الاسمية يكون المسند هو الخبر , والمسند إليه هو المبتدأ، فمثلاً إذا قلنا : (محمد قائم) ،نكون قد أسندنا ( قائم ) وهو الخبر ، إلى ( محمد ) وهو المبتدأ.

في الجملة الفعلية: المسند هو الفعل، والمسند إليه هو الفاعل
في الجملة الاسمية: المسند هو الخبر، والمسند إليه هو المبتدأ
ويمكن اختصار ذلك بمعرفة هذه القاعدة (المسند دائماً هو الحكم؛ والمسند إليه هو المحكوم عليه) ، ولن يخرج أي كلام عن كونه حكما أو محكوم عليه، فإذا قلنا : نجح الطالب، أدركنا بأن الحكم هو النجاح وأنه محكوم به على الطالب، ولو قلنا: في البيت ضيف، لكان الحكم هو (في البيت) أي كائن أو موجود ، والمحكوم عليه هو الضيف.

خصائص الاسم وخصائص الفعل
1-بالعموم يدل الاسم على الثبوت، والفعل على الحدوث والتجدد0
فقولي : (خالد كاتب ) تدل كلمة (كاتب) هنا على أن الكتابة مهنة ثابتة لخالد؛ ولكن إذا قلت : خالد يكتب – دل الفعل (يكتب ) على أن صفة الكتابة حادثة منشأة الآن متجددة، اقتضاها أمر ما، وليس شرطا أن تكون هذه مهنته.
وحتى يتضح الأمر نذكر قوله تعالى عن داود عليه السلام:(( إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق ، والطير محشورة كل له أواب ))
ففرق بين مدلول الكلمتين : ( يسبحن ) مع الجبال ، و( محشورة ) مع الطير ، وكان يمكن أن يقال في غير القرآن ( مسبحات )و ( يحشرن ) ، أو( يسبحن ويحشرن) أو ( مسبحات ومحشورات ) لكن المدلول سيتغير ، والمراد هنا هو بيان القدرة الإلهية والنعمة العظيمة على داود عليه السلام ،فالتسبيح من الجبال مطلوب فيه أن يتجدد ويحصل آن بعد آن ، كلما مر على تلك الجبال، وفي هذا آية من آيات التكريم لداود عليه السلام
ولو قيل : (مسبحات) لدل على استمرارية التسبيح، مع وجود داود عليه السلام، وفي غيبته، وهو غير مراد هنا0
أما حشر الطير فجيء معه بالاسم والإفراد فقيل: ( محشورة ) ، ولم يكن ( يحشرن ) بالفعل ؛ لأن الفعل يدل على أن حشرها كان على دفعات، وهذا مقتضى الانقطاع والتجدد، والاسم يدل على أن حشرها كان جملة واحدة، ويؤيد هذا مجيء الكلمة مفردة، ولم تكن مجموعة: (محشورات)، وهذا أدل على قدرة الله ، فمن ذا الذي يستطيع أن يجمع تلك الأطيار في لحظة واحدة، في كتلة واحدة إلا خالقها سبحانه ،أما الحشر المتقطع على دفعات فقد يحصل لبعض البشر ، فسبحان مَن هذا كلامه ، وتقدست أسماؤه.
ولو نظرنا في قول الشاعر: .
لايألف الدرهم المضروب صرتنا لكن يمر عليها وهو منطلق
فقوله (منطلق) اسم، ولو عبر بالفعل وقال: (ينطلق) لما كان شيئاً ، ذلك أن قوله (منطلق) أدل على الكرم وقدمه فيهم، فالدرهم منطلق منذ القديم من قبل أن يلج الصرة، وأما الفعل فإنه يعني استمراراً لكنه منقطع ثم يتجدد، أي أنه إذا وقع في الصرة فهو ينطلق عند ذلك ولايستقر فيها.
2- الفعل يدل على استحضار الصورة الماضية وخصوصاً المضارع ، وليس كذلك الاسم ، وهذا ظاهر في قوله تعالى عن عصى موسى عليه السلام: ((فإذا هي تلقف ما يأفكون)) فلم يكن :لقفت ولا لاقفة ، لما في المضارع (تلقف) من استحضار صورة (اللقف) الهائلة ، حتى كأننا نراها الآن، وما كنا لنستحضر هذه الصورة ونستشعرها أمامنا لو قيل : ( فإذا هي لاقفة ما يأفكون ).
3-الاسم يدل على السكون وعدم الحركة، والفعل يدل على الحركة والتغير، ويمكننا لحظ ذلك في قوله تعالى :(( وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد)) ،فالوصيد هو عتبة الباب ، وجاء قوله تعالى (باسط) بالاسم دون (يبسط) بالفعل للتدليل على عدم الحركة؛ لأن الكلب كان على هيئة واحدة مدة ثلاثمائة وتسع سنين ، ولو كان يتحرك فيبسط يديه ويقبضهما لكان المناسب أن يقال: (يبسط)0
ومن هذا القبيل قوله تعالى عن الطير: (( أولم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن مايمسكهن إلا الرحمن)) لماذا جاء قوله سبحانه وتعالى:(صافات) بالاسم مع الصف، وبالفعل (يقبضن) مع القبض في الآية؟
الجواب :جاء الاسم مع الصف فقال سبحانه (صافات)؛ لأن حالة الصف بالنسبة للطائر غير منقطعة فإنه إذا حلق في السماء صف جناحيه ورفعه الهواء ،واستمر على هذه الحالة حتى يهم بالهبوط عندها يقبض جناحيه ، فلما كان ذلك كذلك من الاستمرارية وعدم الانقطاع ناسب التعبير بالاسم ،إذ لو قيل: (يصففن) لدل ذلك على أن الصف ناشئ طارئ، وهذا خلاف الواقع .
كما أننا لو تأملنا لوجدنا أن الحديث عن التفكر والاعتبار كما يشعر به قوله تعالى في أول الآية ( أولم يروا ) وما يدل على قدرة الله العظيمة بقاء الطير سابحاً في الهواء ، ليس له سبب يبقيه ويقيه من السقوط إلا قدرة الله كما قال سبحانه:( ما يمسكهن إلا الرحمن).
وأما القبض فلأنه ينشأ مع الطير في حالتي الطيران والهبوط ، فيقبض الطائر جناحيه أولاً عند الطيران ثم يصفهما ثم يعود إلى القبض ثانيا عند الهبوط، لذا جاء (بالفعل ) الدال على التجدد والحدوث ، وهذا أيضا من دلائل القدرة ، حيث يوضح كيف أقدر الله هذا الطائر على التحكم بحركته كيفما شاء ، وإنما قُدم الصف على القبض مع أن الطائر أول ما يرتفع يقبض جناحيه ؛ لأن مقام الاتعاض والاعتبار يحتم تقديم الحالة الأعجب والأغرب والأدل على القدرة وهي هنا ( الصف ).


تطبيقات
ما سر التعبير بالفعل والاسم فيما يأتي:
أ – قال تعالى عن موسى عليه السلام : (( فخرج منها خائفاً يترقب)) (21 القصص)
ب- قال تعالى عن الملائكة : (( وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحـون
بحمد ربهم…)) ( 75 الزمر ).
ج – قال تعالى : (( قل يا أيها الكافرون ، لا أعبد ما تعبدون ، ولا أنتم عابدون ما أعبد ، ولا أنا عابد ما عبدتم ، ولا أنتم عابدون ما أعبد لكم دينكم ولي دين)) ( الكافرون ).