الاثنين، 10 نوفمبر 2008

القصر

القصـــر
القصر لغـة : هو الحبس ، قال تعالى: (( وعندهم قاصرات الطرف))، أي: حابسات الطرف إلا على أزواجهم .
وفي اصطلاح البلاغيين هو: تخصيص أمر بأمر بطريق مخصوص.
وله أركان ثلاثة، هي:1-مقصور، 2-مقصور عليه، (وهما طرفا القصر)، 3- طريق القصر.
أنواع القصر.
للقصر أنواع منها: القصر الحقيقي، أي المطابق للواقع، والقصر الإضافي (الادعائي)، ومن أنواعه: قصر الموصوف على الصفة، وقصر الصفة على الموصوف.
فإذا قلنا مثلاً : إنما الشاعر المتنبي ، نكون قد قصرنا الشاعرية على المتنبي ، فيكون هذا من قصر الصفة(الشاعرية) على الموصوف (المتنبي)، وهو أيضا من القصر الإضافي، أما إذا قلنا : إنما المتنبي شاعر ، فهذا من قصر الموصوف(المتنبي) على الصفة (الشاعرية)، وهو من القصر الادعائي أيضا، ومثال القصر الحقيقي: لا خالق إلا الله.
وهنا قضية مهمة، تبرز من خلال هذا السؤال: أيهما أبلغ قصر الموصوف على الصفة أم قصر الصفة على الموصوف؟
الجواب: لكل من النوعين مكانه وبلاغته ، ففي مواطن المدح يحسن استعمال قصر الصفة على الموصوف، وفي مواطن التمييز والرد والإيضاح يحسن استعمال قصر الموصوف على الصفة.
وإنما قلنا يحسن استعمال قصر الصفة على الموصوف، في المدح لما فيها من المبالغة في اتصاف الموصوف بالصفة ، كقولنا : ما الشاعر إلا المتنبي، فنحن بهذا نقصر الشاعرية كلها على المتنبي، حتى كأن الشعراء غيره لايستحقون هذه الصفة، وهذا بلاشك غاية المدح، وهو غير مطابق للواقع لذا فهو يسمى زيادة على ماسبق قصرا إضافيا ( غير حقيقي) .
أما النوع الثاني وهو قصر الموصوف على الصفة، فقد لا يحسن في مواطن الثناء، إذ قد يشعر بالذم، فإذا قلت مثلاً : (ما المتنبي إلا شاعر ) ، فكأننا بذلك جردنا المتنبي من كل الصفات، وادعينا أنه لايحسن إلا هذه الصفة، فهو ليس بشجاع ولابكريم000 إلخ ،بينما الواقع غيرُ هذا، ومرد ذلك أنه لايتصور موصوف ليس له إلا صفة واحدة، يمكن أن يحصر فيها، ولهذا نستطيع القول إن قصر الموصوف على الصفة لايكون إلا إضافياً.
وبهذا يظهر أن قصر الصفة على الموصوف أعم وأشمل لأنك تجرد الآخرين من الصفة وتجعلها للممدوح، ولامانع أن تكون له صفات أخرى، أما في قصر الموصوف على الصفة ففيه ضد ذلك.

طـرق القصـر .
للقصر طرق أربعة مشهورة ، هي:
الأول : ( إنمـا ) ويكون المقصور عليه معها مؤخراً ، مثل قوله تعالى: (( إنما المؤمنون إخوة )).
الثاني : طريق النفي والاستفهام، أو ( ما و إلا ) ، ويكون المقصور عليه مع (إلا) هو الواقع بعدها.
الثالث : ( العطف بـ( بل ولكن ولا )، والمقصور عليه في هذا الطريق يكون بعد (بل ولكن) وقبل (لا).
الرابع : ( التقديم )، ويتغير موقع المقصور عليه بحسب الجملة.
الفروق بين هذه الطرق:
ما يهمنا هنا هو بيان بعض الفروق الدلالية بين هذه الطرق وخصوصاً الأول والثاني.
(1) (إنمـا) ، تأتي (إنما) للقصر في الأمور التي لايجهلها المخاطب ولاينكرها، أو مايُنّزل هذه المنزلة، فمثال الأول قوله تعالى تعالى : (( إنما المؤمنون إخوة ))، فأخوة المؤمنين غير منكرة، لذا جيء معها بـ(إنما)، ومثال الثاني قوله تعالى: ((إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاماً زكيا))، فهذا جواب جبريل عليه السلام لمريم عليها السلام، والحق أن هذه المعلومات مجهولة لمريم بدليل قولها قبل ذلك: ((إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقياً))، كما أنها أمر عجيب غير معهود، وهي -بلا شك- تجهل أنه ملك مرسل من الله ، خصوصاً أنه تمثل لها بصورة رجل حسن الصورة،بدليل قوله تعالى: (( فتمثل لها بشراً سويا ))، وعلى القاعدة التي ذكرناها، فالمقتضى أن يستخدم الطريق الثاني وهو النفي والاستثناء، لكن لما كانت مريم عليها السلام قد عايشت كثيراً من خوارق العادة، ومن عظيم فضل الله عليها، وغير ذلك من الأمور التي مهدت وهيأت نفسيتها لتلقي أي أمر
غريب ، فلما جاء الرسول على الهيئة المذكورة قال لها :(( إنما أنا رسول ربك ))، لأنها نزلت منزلة من لايُنكر ولا يجهل ولا يستغرب مثل هذا الأمر، لما سبق ذكره ، وأيضاً قد يكون المراد هو إظهار هذا الخبر العجيب الغريب عليها مظهر الخبر العادي المألوف، زيادة في الإيناس ودفع الخوف عنها، لأنه أشعرها بأن هذا الذي تخوفت منه أمر معلوم ممكن.
وقريب من هذا مع الفارق حكايته سبحانه قول أكلة الربا : (( قالوا إنما البيع مثل الربا))، فإنه مما لاشك فيه أن الربا منكر، وفيه أكل واضح لأموال الناس بالباطل، ومع هذا أخرجه أكلة الربا مخرج المعروف المألوف الذي الذي لاينكر، بل زادوا في ذلك حينما ألحقوا البيع بالربا ، فجعلوا الربا المحرم حلالاً وأصلاً ، وحصروا الجدل عندهم في البيع أيلحق بالربا في الحل أم لا، والذي دلنا على هذا هو طريق (إنما) الذي لايستعمل إلا فيما يُعرف ولا ينكر ، فهم بهذا نزلوا الربا وأكله منزلة الكسب الحلال الذي لايُجادل فيه مجادل ولاينكر فيه منكر، فلما كان ذلك كذلك من الإدعاء الباطل وتحريف الكلم عن مواطنه، جاء الرد من الله واضحاً وصريحاً ، فقال سبحانه: (( وأحل الله البيع وحرم الربا ))، فأعيد البيع إلى مكانه فأصبح أصلاً ثم ذكرت حرمة الربا.
(2) النفي والاستثناء(مـا و إلا).
يستخدم هذا الطريق فيما ينكره المخاطب أو يجهله أو ماينزل هذه المنزلة، فهو على عكس طريق(إنما)، ومثاله قوله تعالى: {مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ }المائدة75، فهذا رد على القائلين بألوهية عيسى وأمه، وقد ناسب أن يكون القصر بهذا الطريق لأنه في موطن الرد والإبطال .
أما قوله تعالى: (( ما أنتم إلا بشراً مثلنا )) في رد أصحاب القرية على المرسلين ففيه تنزيل لغير المنكر منزلة المنكر، لأننا نتفق أنهم لاينكرون بشريتهم ولايجهلونها، فهي أمر ماثل للعيان، وكان المقتضى أن يقال: (( إنما أنتم بشر ))، لكن لما كان هؤلاء الأقوام لايستقيم في عقولهم أن يكون الرسول من البشر، بل يظنون أنه لابد أن يكون من جنس آخر كالملائكة، لذا جعلوا الرسل بدعوتهم إلى الله وقيامهم بالرسالة في منزلة من يرفع نفسه فوق منزلة البشرية، وهي عندهم الرسالة التي تؤول إلى الملائكية، فأنكروا عليهم ذلك وجردوهم من تلك الصفة وحصروهم في البشرية .
ومثل هذا قوله تعالى عن نبينا صلى الله عليه وسلم : (( وما محمد إلارسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم )) فمن المحقق أن المؤمنين لاينكرون رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا ينكرون بشريته حتى يوجه لهم هذا الكلام بهذا الأسلوب، لكن لما كان حبهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم عظيماً وتعلقهم به كبيرا ، لم يصدق بعضهم خبر موته لأول وهلة، فكأنه بهذا رفعه فوق منزلة البشرية والرسالة، فقال الله لهم: (( وما محمد إلا رسول )) ، أي ليس بملك ولا بإلـه.